حمد سعد المالك
حين تزور أحد المتاحف العريقة، لا تكون مجرّد متفرّج على قطعٍ أثرية صامتة، بل تنغمس في سردٍ بصري حيّ يحكي قصص الحضارات، ويوقظ فيك دهشة الإبداع الإنساني عبر العصور. المتاحف لا تؤدي دورًا توثيقيًا فحسب، بل تُعد منارات تهدينا لفهم ماضينا وتصور مستقبلنا بوعي أعمق. من هذا الفهم تنبع أهمية المتاحف المتزايدة، محليًّا وعالميًّا، في زمن باتت فيه التكنولوجيا حليفًا أصيلًا للثقافة.
اليوم، تتقدّم المتاحف بخطى واثقة نحو فضاءات جديدة، تمزج بين الحفاظ على الأصالة وتبني التقنيات الحديثة، لتفتح أبوابها أمام جمهور أوسع، وتعيد تعريف تجربة التفاعل مع التراث.
في 18 مايو الماضي، احتفى العالم باليوم العالمي للمتاحف تحت شعار: «مستقبل المتاحف في المجتمعات المتغيرة بسرعة»، في إشارة واضحة إلى ضرورة أن تواكب هذه المؤسسات التحولات الاجتماعية والتكنولوجية والبيئية. لم يكن ذلك اليوم مجرّد موعدٍ في الرزنامة الثقافية، بل كان بمثابة دعوة عالمية لإعادة تعريف دور المتاحف كمساحات حيّة، تحتضن الذاكرة وتبني جسورًا بين الأجيال.
وفي هذا الإطار، برزت المملكة العربية السعودية كأحد اللاعبين الفاعلين في إعادة تشكيل المشهد المتحفي إقليميًا. ضمن رؤية السعودية 2030، التي تضع الثقافة في صلب التنمية، تسعى المملكة إلى إنشاء بيئة رقمية تُزاوج بين التراث والحداثة. لم يعد الإرث الثقافي حكرًا على جدران المتاحف، بل أضحى متاحًا للعالم بنقرة زر، يفتح آفاقًا جديدة للتعلّم والانبهار.
ومن أبرز المبادرات التي تعكس هذا التوجّه، تجربة المتحف الوطني في الرياض، حيث أُتيحت جولة افتراضية تفاعلية تُمكّن الزائر من التنقّل بين القاعات الثمانية التي تسرد تاريخ الجزيرة العربية، من العصور الحجرية حتى العصر الحديث. باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي، لا تكتفي التجربة بعرض القطع، بل تنسج سردًا بصريًا يُشعرك وكأنك تسير بين أروقة الزمان نفسه.
ولتعزيز هذا التوجه نحو الابتكار، أطلقت هيئة المتاحف «مسابقة العالم الافتراضي للمتاحف» كمبادرة وطنية تهدف إلى إشراك المطورين والمصممين والطلاب في تخيّل تجارب رقمية تُعيد رسم صورة المتحف. المبادرة لا تكتفي بدعوة للمشاركة التقنية، بل تمثل رهانًا على الإبداع المحلي في إعادة ابتكار الثقافة بصيغة تتناسب مع الحاضر وتُلهم المستقبل.
ومع تطوّر الأدوات، بات بالإمكان إعادة صياغة تجربة زيارة المتحف باستخدام تقنيات مثل الواقع الممتد (XR) وعوالم الميتافيرس. لم يعد الزائر مجرّد متلقٍ سلبي، بل أصبح شريكًا فاعلًا في التجربة، يتفاعل مع المعروضات، ويتبادل المعرفة مع آخرين، بل وربما يتحاور مع مساعد ذكي يمثل صوت المتحف نفسه. هكذا، تتحول المتاحف إلى فضاءات ديناميكية، تتطور باستمرار، وتنمو خارج حدودها المادية.
وفي موازاة ذلك، بدأ الذكاء الاصطناعي يلعب دورًا جوهريًا في تخصيص تجربة الزائر. فمن خلال تحليل البيانات وفهم أنماط السلوك، تستطيع الأنظمة الذكية توجيه الزائر نحو ما يثير اهتمامه، ما يعزّز تفاعله ويمنحه تجربة أقرب إلى التفصيل الشخصي. كما تتيح هذه التحليلات للمؤسسات المتحفية فرصًا ثمينة لتحسين المحتوى وتطوير أساليب العرض بما يتماشى مع تطلعات الجمهور المتغيّرة.
ورغم كل هذا الزخم الرقمي، يبقى السؤال المشروع قائمًا: هل يمكن للتجربة الافتراضية أن تعوّض رهبة الوقوف أمام قطعة أثرية حقيقية؟ الجواب، ببساطة، هو لا. فبينما تُعدّ الوسائط الرقمية وسيلة مهمة لتوسيع الوصول وزيادة التفاعل، فإن للُّمس الحقيقي وقعًا لا يُضاهى. هناك شعور غريزي ينبعث من مواجهة التاريخ وجهًا لوجه، لا يمكن للشاشة أن تُحاكيه.
لهذا، فإن تطوير منصة وطنية موحدة لعرض المتاحف السعودية رقميًا، لا يُعد بديلًا عن زيارة المتحف، بل امتدادًا له، وجسرًا إضافيًا يعزز رسالته. إنها خطوة إستراتيجية تعبّر عن التزام المملكة بحفظ تراثها الغني، وتقديمه برؤية منفتحة، تجعل من الثقافة إرثًا مشتركًا متاحًا للجميع، بلا عوائق جغرافية أو زمنية.