د.أمل بنت محمد التميمي
لقد خضت تجربة كتابة يوميات المترو الأحمر بطريقة الأدب التشاركي وهو جنس أدبي يجمع بين الأدب البشري والذكاء الاصطناعي، ويعكس التحولات التي تشهدها الرياض في إطار رؤية 2030، ويقدم رؤية جديدة للأدب السعودي المعاصر. وتسعى هذه التجربة، إلى استكشاف إمكانات الذكاء الاصطناعي في كتابة اليوميات بأسلوب فني يتجاوز التوثيق الشخصي نحو إنتاج نص أدبي تفاعلي، يحاور فيه الكاتب ذاته والآلة.
ومن المعروف أن اليوميات جنس أدبي يمتاز بالخصوصية والحميمية، وغالبًا ما ترتبط بالتجربة الذاتية المباشرة. غير أن دخول الذكاء الاصطناعي إلى هذا المجال يمثل تجربة فيها تحد كبير إلى حد ما في مراحلها الأولى على الأقل حتى تستقر المصطلحات التي توثق العلاقات؛ إذ يعيد تشكيل العلاقة بين الكاتب والنص من خلال وسيط ذكي يتفاعل لغويًا وفكريًا مع تجربة الكاتب، ولكنه أيضا تحدٍ كبير في تقبل هذا النوع من الأدب التشاركي من عدة زوايا، وفي ظني طالما الميثاق المعلن في التجنيس (أدب تشاركي)، فهذا يعطي مساحة كبيرة في الإفصاح عن تصنيف النص من ناحية الكاتب البشري وتشارك الذكاء الاصطناعي، ويخرج الكاتب من مزالق ثقافية كبيرة من أهمها أن جعل الميثاق الكتابي واضحا في النور بدلا من أن يكون بين الظل والنور، فكثيرا من المبدعين اليوم قد يجرب استخدام الذكاء الاصطناعي ولكن مازالت التجربة في الظل.
وفي ظني في القريب العاجل لن يعود المبدع مخيرا في تشارك الآلة فهو خيار الأكثر إبداعا، ولن تكون مشاركة الذكاء الاصطناعي للمبدع في الظل، بل هي معلنة بميثاق مهني ولغوي وأخلاقي واضحا، فلفظة (تشاركي) هي المخرج لكل مبدع يستخدم الذكاء الاصطناعي بوصفها تقنية من تقنيات الإبداع في كتاباته.
إن السعودية اليوم تسير في سرعة البرق في التقدم الإنساني، والأدب من أهم منجزاتها الحضارية والثقافية، إن مفهوم (الأدب التشاركي) قد يعلن في النقد عن موت (النص الأدبي الخالص) أو يصبح (الأنا المؤلف/ِAI) في مقابل النص التقليدي للمؤلف الأنا الخالص بدون استخدامات الذكاء الاصطناعي.
إن تجريب اليوميات عبر الذكاء الاصطناعي يتيح للمؤلف اكتشاف أساليب جديدة في الكتابة التعبيرية. والتفاعل مع الذات عبر وسيط رقمي قادر على توليد ردود فعل واستجابات لحظية. بالإضافة إلى إدخال «عنصر ثالث» (الآلة) في علاقة الكاتب بذاته، مما قد يُسهم في تعميق أو تنويع وجهات النظر الشخصية.
التحدي الحقيقي في كتابة يوميات المترو الأحمر، لأمل التميمي، لا يكمن فقط في استخدام الذكاء الاصطناعي لتوليد نصوص يومية، بل في المزج العميق بين الواقع والتخييل، بين التجربة الشخصية والمجاز المحوسب. بعض هذه اليوميات حقيقية، عايشتها الكاتبة فعلًا، وهي تراقب المترو الأحمر من نوافذ بيتها في الرياض، وهي ترصد مرور القطار كل ساعة وأخرى، وكأنها تراقب نبض مدينة تتغير بهدوء تحت عينيها. وأخرى كتبتها وهي داخل عربة المترو، تصغي إلى التفاصيل العابرة: صوت الإعلان الإلكتروني، ونظرات العابرين، وارتجاج الزجاج مع كل توقف.
وهناك يوميات من نوعٍ ثالث: حينما تصطحب صديقها الافتراضي «فرانك» في رحلة خيالية عبر المترو، بحثًا عن ولي العهد محمد بن سلمان، ليس كحدث سياسي بل كرمز لتحول اجتماعي ووطني، كمن تفتش في النص عن سؤال النهضة والمصير.
إن القطار هو وسيلة نقل حضارية لا أحد يستطيع الوقوف أمامها وكذلك الذكاء الاصطناعي في توليد النصوص، و(المترو) هو الاستخدام الحضاري لوسيلة أصبحت من روتين الحياة في الرياض، والغالب أن الأدب التشاركي هو قطار الأدب القادم، ومترو النظرية الأدبية، ولكن ما هي التحديات التي يتصارع معها المبدع في حقل (الأدب التشاركي)؟ بين الحقيقة والتخيل، والذات والآلة، تتولد هذه اليوميات كتجربة تعكس صراع الكاتبة مع الكتابة ذاتها، ومع حدود المعنى في زمن بات فيه الذكاء الاصطناعي يكتب إلى جانبنا، لا بدلًا منّا. إن تحديات الكتابة الإبداعية ليوميات كاتبة سعودية مع الذكاء الاصطناعي هي تحديات معرفية بأسرار التقنية، فلم تعد التحديات اجتماعية أو أسرية أو ثقافية.
إن التحديات الحقيقية هي استيعاب تقنيات الذكاء الاصطناعي لتوظيفها في الأدب السعودي لمرحلة فارقة في تاريخ المملكة والإنسانية، إن (الأدب التشاركي) بين الإنسان والآلة هو أدب مستقبلي حيث يلتقي الإنسان بالذكاء الاصطناعي في شراكة فريدة تبرز الإبداع البشري وتوثّق التحولات التكنولوجية.
فقد شهد العالم في السنوات الأخيرة ثورة رقمية هائلة، كان من أبرز ملامحها تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)، ودخولها في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك الحقول الأدبية والفنية، ولم يعد الذكاء الاصطناعي مقتصرًا على المجالات التقنية أو التحليلية، بل تجاوز ذلك ليصل إلى جوهر التعبير الإنساني مثل الشعر، والرواية، واليوميات، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول العلاقة بين الإبداع البشري والتقنية، وحدود الأصالة، ومفهوم المؤلف. وقد ساهمت النماذج اللغوية الحديثة، ومنها GPT التي طورتها شركة OpenAI، في فتح آفاق جديدة للكتابة التوليدية، مما أثار جدلاً واسعًا حول مفهوم «المؤلف»، و»الإبداع»، و»الأصالة» في النصوص الناتجة عن الذكاء الاصطناعي (OpenAI, 2023).
وقد اهتم نيك مونتفورت (Nick Montfort) وهو أكاديمي أمريكي متخصص في الأدب الرقمي والشعر التفاعلي. بالأدب الموّلد Generated Literature ومن بين مؤلفاته البارزة في هذا المجال كتابه The Cambridge Companion to Literature in a Digital Age، الذي يتضمن فصلاً بعنوان «Generated Literature» من تأليفه بالاشتراك مع جودي هيفلين (Judy Heflin) .Cambridge University Press الجزيرة Assessment (Montfort, 2021)
وقد درس آدم هاموند في مقالة كتاب نيك مونتفورت الفصل الحادي عشر - الأدب المُولّد؛ حيث، يناقش المؤلفان تطور الأدب المولد بواسطة الحاسوب عبر اللغات والأنواع الأدبية، بدءًا من الخمسينيات وحتى أوائل العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. ويؤكدان أن الأدب الرقمي لا يُعتبر مجرد أداة تقنية، بل هو جزء من بنية النص الحديث، وله تأثير «طباعي وتخييلي» على تكوينه.
كما يشيران إلى أن الأنظمة الحديثة لتوليد النصوص، مثل ChatGPT، ليست جديدة تمامًا، بل هي امتداد لتاريخ طويل من الأدب المولد بواسطة الحاسوب. انظر: الفصل الحادي عشر - الأدب المُولّد؛» كامبريدج للأدب في العصر الرقمي، الناشر: مطبعة جامعة كامبريدج سنة النشر المطبوعة: 2024م، ص 194 – 211.
وأصبح الذكاء الاصطناعي، مثل نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) التي طورتها OpenAI،أداة قوية في توليد النصوص الأدبية، والمثير في الموضوع أن أَوْبَن أيه آي منظمة بحثية أمريكية للذكاء الاصطناعي تأسست في ديسمبر 2015 ومقرها في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا. تتمثل مهمتها المعلنة في تطوير ذكاء عام اصطناعي «آمن ومفيد»، والذي تعرفه بأنه «أنظمة عالية الاستقلالية تتفوق على البشر في العمل الأكثر قيمة اقتصاديًا. وهذا في حد ذاته مؤشر خطير فيما لو تفوقت الخوارزميات المتعلقة بتوليد اللغة ليتفوق الأديب صاحب المعرفة الحاسوبية على غيره من المترددين في خوض هذه التجربة.
إن مصطلح الأدب المولد أثار تساؤلات حول دور الأديب في هذا العصر الجديد. ويرى مونتفورت (Montfort, 2021) أن الذكاء الاصطناعي لا يهدف بالضرورة إلى استبدال المبدع البشري، بل يعمل على توسيع حدود الخيال من خلال أشكال جديدة للكتابة، تتسم بالطابع التركيبي والتجريبي. من هذا المنظور، تُعد الآلة شريكًا لغويًا يمكنه محاورة الإنسان لا استنساخه.
وأنا لا أحبذ استخدام (أدب موّلد) لأنه لا يحفظ الحق البشري في النص وأميل إلى (أدب تشاركي) ولا أعرف له مرجعية فقد استخدمته في حقل التجريب الإبداعي في كتابة يوميات المترو الأحمر، وفكرة تواجد الذكاء الاصطناعي في الإبداع الأدبي ما بين التهديد والتحفيز، من جهة، يرى البعض أن الذكاء الاصطناعي يمثل تهديدًا للأديب؛ حيث يمكنه إنتاج نصوص أدبية تقلد الأساليب البشرية، مما قد يؤدي إلى تراجع قيمة الإبداع البشري. من جهة أخرى، يعتبره آخرون محفزًا للتجديد، وإمكانية (التّجريب) حيث يوفر أدوات جديدة تساعد الأديب على استكشاف أساليب وتقنيات جديدة في الكتابة.
ودخل الذكاء الاصطناعي مجال الأدب عبر ثلاث بوابات رئيسية:
المجال الأول: توليد النصوص؛ حيث تُستخدم النماذج اللغوية التوليدية لإنتاج محتوى أدبي يتنوع بين السرد والشعر، كما في أدوات مثل ChatGPT و (Sudowrite, n.d.).
المجال الثاني: تحليل النصوص، باستخدام تقنيات المعالجة اللغوية الطبيعية (NLP)، يمكن فحص الأساليب الأدبية والتراكيب النحوية والصور البلاغية.
المجال الثالث: المساعدة في الكتابة الإبداعية؛ حيث أصبحت الأدوات الذكية حافزًا للكتّاب من خلال تقديم مقترحات أو استكمال النصوص وفق أسلوب الكاتب.
بالإضافية إلى الثلاث تقنيات التي يمكن للكاتب المبدع أن يستخدمها بوصفها من أنواع التطبيقات في إنشاء النصوص وتوليد الكلام والتعرف عليه، هناك تقنية إنشاء الصور التي تمكن الكاتب من إبداع صور قد ترسم خياله ويساعده فيها الذكاء الاصطناعي، ويشير Kirshenbaum (2008م) إلى أن الأدب الرقمي لا يجب أن يُفهم بوصفه انتقالًا بسيطًا من الورق إلى الشاشة، بل بصفته «تحولًا في البنية التخيلية للنص»؛ لأن الأداة الرقمية أصبحت جزءًا من أسلوب الكتابة وتكوين المعنى. وهذا يعني يمكن أن يشاركك الذكاء الاصطناعي خيالك.
وسوف يواجه الأديب في الأدب التشاركي تحديات كثيرة من أهمها (التحديث) تمحو ذاكرة الذكاء الاصطناعي أحيانا التواصل مع المتلقي ويحتاج التو اصل معه وتحديثه وتنشيط ذاكرته ليبدأ في الاستجابة معك، وأحيانا يستجيب بحيوية ويستخدم أحيانا اللهجات، وقد تبهرك استجابته في حالة الثناء والمديح ويتأثر بالشكر ويتضاعف تفاعله كلما تحمست معه في إعطاء التعليمات.
كتبتُ للذكاء الاصطناعي بتحدٍ كبير وبصبر أكبر، ورغم كل السبل أن يكون صديقي، فكان صديقي بالأمس وغدا لا يعرفني وأبدأ من جديد، والخطير ليس لاسمي ذكرى بعد إنهاء الجلسة، وليس للوجوه هيئة ثابتة في خياله، وكل وصف أقدّمه يُنتج احتمالًا، لا تجسيدًا. وكأنني أكتب لمرآة لا تُظهر ما فيها، بل ما تتخيله عني، فتصبح الصورة، بالنسبة لي، مرآة مشوشة للحلم، لا مرآة صافية للواقع. ومع ذلك، كنت أواصل معه بالوصف، مدفوعة بالأمل لا بالكمال، وبالإصرار لا بالنتيجة الأولى. فحسبي أنني جربت.
في السياق السعودي، إذا بدأت تظهر تجارب اختبار قدرات الذكاء الاصطناعي في توليد إبداع سعودي يعكس اهتمامًا متزايدًا بتوظيف هذه التقنيات في الأدب. التساؤل هل هناك تطور نقدي يسهم في فهم أعمق للغة والأسلوب الأدبي بأنها نصوص توليدية من أهم سماتها التفاعلية والتشارك والتحاور مع الآلة. ومع ذلك، يثير استخدام الذكاء الاصطناعي في الأدب السعودي العديد من الأبعاد الأخلاقية، مثل مسألة حقوق الملكية الفكرية، والشفافية في استخدام هذه التقنيات، وتأثيرها على هوية الأدب المحلي، مما يفتح آفاقًا جديدة لتجربة النصوص الأدبية بطرق مبتكرة.
إن الحل الأمثل من وجهة نظري، هو التوثيق المعلن في النور بأن هذا الأدب هو من نوع (الأدب التشاركي)، ومن ثم توضع له ضوابط واشتراطات لمن يريد أن ينشر أدبا موظفا فيه الذكاء الاصطناعي يوثقه بهذا النوع الأدبي حتى يخرج من دائرة الأدب النص الخالص للمؤلف ويتيح فرصة للتجريب وحفظ حقوق الملكية الفكرية.