منيرة أحمد الغامدي
في لحظة رمزية حملت أكثر من دلالة، شارك معالي الأستاذ عادل الجبير، وزير الدولة للشؤون الخارجية ومبعوث شؤون المناخ في مراسم تنصيب بابا الفاتيكان الجديد، وقد لا يكون الحضور في ذاته استثنائياً من حيث البروتوكول الدولي، لكن الرسائل التي حملها صامتة حينًا وضمنية حينًا آخر كانت بالغة التأثير وموضع تقدير عالمي. رسالة واضحة من المملكة تعكس نمط تعاملها مع العالم وهو يعتمد على التواصل الإنساني والانفتاح المتزن، ويُعلي من شأن التفاهم الثقافي.
هذه المشاركة لم تكن مجرّد مجاملة دبلوماسية، بل تجلٍ واضح لما أصبح يمثل مبدأً راسخًا في السياسة الخارجية السعودية، فهو الانفتاح الواعي، والتفاعل المسؤول مع العالم بوصفه شريكًا لا خصمًا، وبوصف المملكة جزءًا فاعلًا من المجتمع الدولي بكل تعقيداته وتنوعه الثقافي والديني.
أن يمثل مسؤول سعودي بلاده في واحدة من أقدس المناسبات الدينية لدى المسيحيين، هو موقف يحمل من الرقي بقدر ما يحمل من الثقة، فالسعودية وهي أرض الإسلام ومهبط الوحي لم تتخلَ عن هويتها ولم تتنازل عن ثوابتها، لكنها في الوقت نفسه تُصرّ على أن احترام الأديان الأخرى لا يُنقِص من الذات، بل يثريها ويُعلي من شأنها. إن هذا الحضور يؤكد أن المملكة رغم مكانتها الدينية الكبيرة لا تبني علاقاتها على أساس العقيدة بل على أساس المصالح المشتركة والمبادئ الإنسانية الجامعة، وهو جوهر رؤية دبلوماسية ترتكز على التقبّل لا التنازل، والانفتاح لا الذوبان، وتتعامل المملكة مع التعدد الديني والثقافي كرافد للحوار، فهي تنظر إلى العالم بعينٍ تدرك قيمة التنوّع في بناء جسور الثقة بين الأمم، وتوظف هذا الفهم لبناء علاقات دولية تقوم على الاعتراف والتفاهم، لا على التغليب أو الإقصاء، وهذا الفهم المتقدم للدبلوماسية يعزز من قدرة السعودية على التفاعل مع الأزمات العالمية، والتأثير في القضايا الدولية من موقع منفتح وإنساني.
إن ما يميز هذا التوجه هو تركيزه على التأثير الهادئ والذكي، فالمملكة لم تعد تكتفي بالتموضع الجغرافي والاقتصادي، بل تسعى لترسيخ حضورها القيمي من خلال رمزية أفعالها وخطابها المتوازن، ومن خلال المشاركة في مثل هذه المناسبات تعزز المملكة رسالتها كدولة تحترم الآخر وتُتقن فن التواصل الحضاري.
هذه الرؤية المتقدمة لا تكتفي بصياغة المواقف، بل تسهم في تشكيل البيئة العالمية التي تطمح إليها المملكة، بيئة تسودها الشراكة لا الصراع، ويتقدم فيها صوت الحكمة على ضجيج المواجهات، ومن خلال هذا الإطار يصبح الحضور السعودي في الفاتيكان جزءًا من مشروع أكبر يعيد تعريف موقع المملكة في العالم.
وفي هذا السياق، تبرز السعودية بوضوح كـ»مملكة الإنسانية»، ليس كشعارٍ سياسي، بل كنهج يعكس قيمها العميقة. فهي تؤمن أن الإنسان أيًا كان دينه، أو خلفيته، أو موقعه في العالم يستحق أن يعيش بكرامة وسلام على أرضه، وأن ذلك لا يتحقق إلا من خلال احترام معتقداته وموروثه الثقافي. المملكة حين تتحدث عن السلام، فهي لا تعنيه كمفهوم أمني فقط، بل كحق إنساني شامل يبدأ من حرية العبادة ويكتمل بالعيش المشترك والتقدير المتبادل بين الشعوب.
لا يمكن فصل هذه المبادرات عن التحولات الجوهرية التي تشهدها المملكة في ظل رؤية 2030، التي أرست أسسًا جديدة للدبلوماسية تقوم على بناء الثقة والتأثير الإيجابي. الانفتاح الذي تنتهجه السعودية اليوم يتجاوز الطابع السياسي ليشمل مواقف إنسانية تؤكد التزامها بقيم العدالة والتعايش وتعزز من مكانتها كدولة فاعلة في القضايا العالمية.
إن الحضور وما حمله الوفد السعودي إلى ساحة القديس بطرس لم يكن فقط تمثيلًا رسميًا ومجرد تلبية لدعوة بل حضور رمزي يمثل درسًا في استخدام أدوات الدبلوماسية الناعمة التي أصبحت اليوم من أهم أدوات النفوذ والتأثير في العلاقات الدولية في وقت لم تعد فيه السياسة الدولية مجرد بيانات رسمية أو تفاهمات ثنائية، فقد أصبحت الثقافة والدين والحضور في المحافل الإنسانية جزءًا من التأثير العالمي، وجزءًا من صناعة الصورة الذكية للدول.
السعودية اليوم تدرك أن الحضور الرمزي، حين يُدار ببصيرة، قد يُحقق ما لا تحققه جولات التفاوض، وأن القيم المشتركة بين البشر مهما اختلفت دياناتهم هي البوابة الأوسع لبناء الثقة وتوسيع دوائر التعاون.
وفي عالم تتزايد فيه التوترات وتضعف فيه مساحات التفاهم، تبدو المملكة وقد اختارت طريقًا مختلفًا، طريقًا يربط ولا يفرّق، يستمع بقدر ما يتحدث، ويبني أثره من احترام الإنسان أينما كان وكيفما كان. إن ما يُميز هذه الخطوة أنها لا تأتي في سياق الخطاب الاستهلاكي، بل في سياق استراتيجي سعودي شمولي واضح، وهو أن الانفتاح على العالم، والتقارب مع الآخر، ليس هدفًا أخلاقيًا فحسب، بل أداة لتحقيق المصالح العليا للمملكة. ففي عالم متداخل سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا، لا يمكن لدولة تطمح للريادة أن تعيش داخل قوقعة، أو أن تخاطب نفسها فقط. المملكة اليوم تعي أنها كلما تفاعلت باحترام مع العالم، كلما وسّعت تأثيرها ودعمت مصالحها لتحديد وصياغة صورتها بيدها لا بيد غيرها.
وفي نهاية المشهد، لم تكن المشاركة السعودية في مراسم تنصيب بابا الفاتيكان مجرّد حضور ضمن دول، بل كانت رسالة ذكية تؤكد أن المملكة تمارس دبلوماسيتها بلغة العقول وبنَفَس إنساني وبحضور متوازن يُصغي بقدر ما يتكلم، في زمن تتنازع فيه الخطابات العالمية بين العزلة والتطرف، تختار السعودية أن تكون جسراً لا حاجزاً.