د. رانيا القرعاوي
في العقود الماضية، كان يُنظر إلى الاقتصاد كأداة في يد السياسة. كانت التحالفات تُبنى على المواقف، وتُدار العلاقات الدولية من بوابة المبادئ والمواقف التاريخية. لكن منذ تسعينيات القرن الماضي، بدأ الاقتصاد يفرض منطقه الخاص، وتحوّل تدريجيًا إلى المحرك الأساسي للقرارات السياسية، حتى أصبحنا أمام واقع جديد تُعرف فيه السياسة بأنها «خادمة للمصلحة الاقتصادية».
تجسد عبارة «الاقتصاد بات يحرك السياسة» هذا التحول، حيث باتت الأوضاع الاقتصادية والقرارات المتعلقة بها أصبحت ذات أهمية أكبر في تشكيل السياسات والقرارات السياسية أكثر من أي وقت مضى.
ظهرت ملامح هذا التحول بوضوح بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وصعود العولمة. في عام 1994، تم توقيع اتفاقية التجارة الحرة (الجات) التي أرست قواعد الاقتصاد العالمي الجديد، حيث بدأت الدول تُقيّم من خلال قدرتها التنافسية لا من خلال خطابها السياسي. ثم جاءت أزمة 2008 المالية التي هزَّت ثقة العالم بالأنظمة السياسية والمالية، ودفعت الدول لإعادة النظر في سياساتها من منظور أكثر براغماتية. أما في السنوات الأخيرة، فقد تسارعت وتيرة هذا التحول مع ظهور قضايا مثل التغير المناخي وأمن الطاقة، حيث أصبحت الدول تُعيد رسم علاقاتها وتحالفاتها بناءً على من يموِّل ومن يستثمر ومن يوفِّر مصادر طاقة آمنة.
في هذا السياق، برز مفهوم «الاقتصاد الأخضر» الذي يهدف إلى تحقيق النمو الاقتصادي مع الحفاظ على البيئة وتحسين الرفاهية الاجتماعية، فبعد اتفاق باريس للمناخ عام 2015، التزمت 197 دولة بمواجهة تغير المناخ وآثاره السلبية، وهو قرار نابع من ضغوط اقتصادية. وفقًا للبنك الدولي، فإن الدول التي تستثمر في التحول الأخضر ستجذب استثمارات تُقدَّر بـ23 تريليون دولار بحلول عام 2030. هذه الأرقام دفعت العديد من الدول، لتبني سياسات بيئية طموحة ليس فقط لأسباب مناخية، الاستثمار الأجنبي أصبح مشروطًا بالتحول نحو التنمية المستدامة، حيث تستهدف المملكة زيادة صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر للمملكة إلى 388 مليار ريال (103.5 مليارات دولار) سنويًّا بحلول عام 2030 .
قدمت المملكة نموذجًا واضحًا لهذا التوجه من خلال إطلاق مبادرة «السعودية الخضراء» عام 2021، التي تهدف إلى تقليل الانبعاثات بنسبة 278 مليون طن سنويًا بحلول 2030، وزراعة 10 مليارات شجرة. هذا القرار لم يكن بيئيًا بحتًا، بل يحمل بُعدًا استثماريًا وإستراتيجيًا، إذ يعزِّز من مكانة المملكة في مفاوضات الطاقة، ويجذب استثمارات كبرى في مشاريع الهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة.
في ظل هذا التحول، لم يعد دور الإعلام يقتصر على نقل الأحداث أو تغطية التصريحات، بل أصبح الإعلام لاعبًا رئيسيًا في قراءة «اقتصادية السياسة» وتفسير أبعاد القرارات التي تتخذها الدول. على الإعلام اليوم أن يتعامل مع البيانات الاقتصادية كما يتعامل مع المصادر السياسية، وأن يطور من أدواته لتحليل أثر كل صفقة، وكل مشروع، وكل تقارب بين دولتين، من زاوية اقتصادية واضحة.
بهذا المعنى، فإن اقتصادية السياسة لا تُقلل من أهمية الإعلام، بل تفتح أمامه مجالات جديدة للفهم والتحليل. وخير مثال على ذلك هو التزايد الملحوظ في تغطيات وسائل الإعلام السعودية والعربية لمبادرات الاقتصاد الأخضر، بعد أن كانت تُعد موضوعات بيئية ثانوية. فبحسب تقرير الهيئة العامة لتنظيم الإعلام ازداد اهتمام الصحف بالقضايا البيئية والاقتصاد الأخضر.
على المستوى الشخصي، ساهمت بالعديد من الحملات الإعلامية التي تركز على توعية الجمهور بترابط البيئة مع الطاقة والاقتصاد. وأسهمتُ في كتابة تقارير ومقالات تسلِّط الضوء على أن الاستثمار في البيئة لم يعد ترفًا، بل هو ضرورة لبناء اقتصاد تنافسي ومستقر. وقد لمستُ في ذلك تغيرًا حقيقيًا في سلوك الجمهور وتفاعل صُنّاع القرار مع الإعلام المتخصص.
إن التعامل مع السياسة من منظور اقتصادي يعني أن على الإعلام أن يتسلح بالأدوات الاقتصادية ليقدّم تحليلاً واعيًا، ويواكب تحوّل العالم نحو منطق جديد فيه تبنى السياسات على جذب الاستثمارات.