د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
عاش الغربيون عقودا لا يشعرون بأي تهديد خارجي في مجال التكنولوجيا والالكترونيات بفضل سيطرة شركاتهم، لكن مع دخول الصين بقوة في هذا المجال، خاصة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، بدأ الغرب يشعر بقلق كبير جدا، بل تشعر الولايات المتحدة بشكل خاص أن السيطرة الصينية المتزايدة على صناعة الإلكترونيات لا تهدد فقط الحالة الاقتصادية لقطاع الإلكترونيات الأميركي، وإنما تنطوي أيضا على مخاطر كبيرة على الأمن القومي للولايات المتحدة، وتؤثر على سلاسل التوريد العالمية على الأمن القومي، بل كشفت جائحة كرونا بوضوح عن نقاط ضعف من نقص معدات الوقاية الشخصية الطبية إلى اختناقات إمداد الرقائق، وذلك بعد عقود من الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية القائمة على نظام الإنتاج حسب الطلب.
لم يكن صعود الصين كقوة عالمية في صناعة الإلكترونيات مجرد مصادفة وإنما كان نتيجة جهد استراتيجي مدعوم بقوة من الحكومة الصينية للسيطرة على القطاعات التكنولوجية الحيوية، فمن خلال الدعم الكثيف الذي يصل إلى 90 في المائة من النفقات الاستثمارية بشكل خاص في مجال تكنولوجية الطاقة الشمسية، وفي التقنيات الجديدة مثل شاشات العرض متناهية الصغر دون القلق من العائد على الاستثمار، لكنه يتيح للشركات مواصلة الابتكار والتوسع في الأسواق وتعزيز مكانة الصين في صناعة الإلكترونيات العالمية. بذلك ترى الولايات المتحدة أن الصين تشوه السوق العالمية وتجعل من المستحيل على شركات دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة منافسة الشركات الصينية بصورة عادلة الذي يؤدي إلى تراجع التصنيع المحلي بسبب عدم قدرته على مواجهة الأسعار المنخفضة، وهذا التراجع في التصنيع يضعف المرونة الاقتصادية للولايات المتحدة حينما يستمر الاعتماد المفرط على الإمدادات الصينية، وهو أمر غير مقبول للولايات المتحدة كقوة عظمى.
بالطبع هناك تشابه بين صناعة الشاشات وأشباه الموصلات تبلغ حوالي 70%، مما يتيح للصين تحقيق نفس التسارع في صناعة الشاشات ينطبق على صناعة أشباه الموصلات الذي تراه الولايات المتحدة انتصار للصين على الولايات المتحدة دون طلقة رصاص واحدة، خصوصا بعدما تراجعت الوظائف في قطاع التصنيع في الولايات المتحدة إلى 12.9 مليون وظيفة من ذروته في أواخر القرن العشرين عند 19.4 مليون وظيفة، وانخفضت حصة الولايات المتحدة من الناتج الصناعي العالمي إلى 17% مقارنة بـ25% عام 1990، فيما الصين تمثل ثلث الناتج الصناعي العالمي.
انتقلت الوظائف إلى الصين خصوصا بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية 2001 إلى تآكل القاعدة الصناعية الأميركية وهي صدمة تعرف باسم صدمة الصين، رغم ارتفاع الناتج الصناعي الأميركي إلى نحو 5 تريليونات دولار في 2016 ولا يزال، لكن انتقلت صناعات بأكملها إلى الصين على رأسها المنسوجات والملابس والإلكترونيات الاستهلاكية، فعلى سبيل المثال أكثر من 95 في المائة من الملابس المبيعة في الولايات المتحدة مستوردة، ويتم تصنيع جميع الجوالات الذكية تقريبا في الخارج، ولا تنتج الولايات المتحدة من أشباه الموصلات في العام سوى 12% انخفاضا من 37% في التسعينيات. اتجهت الولايات المتحدة إلى استراتيجية شاملة تجمع بين السياسة الاقتصادية والابتكار التكنولوجي وإجراءات الأمن القومي، وتعترف الولايات المتحدة لن تستطيع مواجهة النفوذ الصيني بمفردها، وأن عليها إعادة النظر في علاقتها التجارية مع الصين، وبخاصة في قطاع الإلكترونيات، كما أن عليها العمل مع حلفائها في بناء قدراتهم المحلية، وضمان تكامل سلاسل إمدادها حتى تحافظ على التفوق التكنولوجي للولايات المتحدة.
توقيع السعودية مع أمريكا على وثيقة الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية، يمثل نقلة نوعية ويعزز مكانة السعودية كقوة اقتصادية إقليمية ليصبح اقتصادها ضمن أكبر 12 اقتصادا في العالم بقيمة تقدر 2.6 تريليون دولار جعل سمو ولي العهد يطلق شركة هيوماين إحدى شركات المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة ليكون كيانا وطنيا ينافس عالميا في مجال الذكاء الاصطناعي، وستعمل الشركة من قلب السعودية لتغطي كامل سلسلة القيمة للذكاء الاصطناعي، تهدف لتطوير وإدارة حلول هذه التقنية والاستثمار في منظومة القطاع.
تطمح السعودية لأن تكون مركزا عالميا للابتكار والبنية التحتية والاستثمار، والكفاءات من حول العالم في مجال الذكاء الاصطناعي، لتمكين القدرات المحلية وفتح آفاق جديدة من خلال التقنية المتقدمة للأفراد والأعمال.
بحثت السعودية وأمريكا عن تعزيز شراكاتهما في الذكاء الاصطناعي لتسريع الابتكار وتحقيق تطلعات البلدين في زيادة التقنيات المتقدمة في العصر الرقمي، وسط زيادة الاهتمام العالمي بتقنيات الذكاء الاصطناعي والتطبيقات المرتبطة بها في شتى المجالات، والاستفادة من المزايا التي تتمتع بها السعودية، ومنها الموقع الجغرافي الاستراتيجي بين ثلاث قارات، ما يسهل الربط بين شبكات التواصل ويتيح سرعة معالجة كميات ضخمة من البيانات، من اجل تعزيز تنافسية السعودية عالميا، مع الحرص على الملكية الفكرية للابتكارات، وتحقق تطلع السعودية في قطاع البيانات والذكاء الاصطناعي، ومنها ترسيخ موقع السعودية مركزا عالميا لتمكين أفضل تقنيات البيانات والذكاء الاصطناعي، من أجل جذب الفرص الاستثمارية وأفضل الكفاءات.
** **
- أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية بجامعة أم القرى سابقا