د.عبدالله بن موسى الطاير
نشهد على نحو متكرر مهازل الديموقراطية في أبرز تجلياتها، يصعب تغطيتها بغربال المكابرة، والنظرة الفوقية لأنماط الحكم الأخرى. أفلاطون الذي مات قبل نحو 2500 سنة توقع ما آلت إليه الليبرالية الديموقراطية المعاصرة. كان يرى أن الديمقراطية نظام معيب لأنها تمنح السلطة للجماهير غير المؤهلة، التي قد تفتقر إلى المعرفة أو الحكمة اللازمتين للحكم، فكيف بها أن تأتي بالشخص المناسب للسلطة؟ في نظره، الحكم يتطلب خبرة وفهماً عميقاً، وهو ما يجده في «الملوك الفلاسفة». المجتمعات الغربية الليبرالية الديموقراطية ليست اليوم بحاجة إلى حكام فلاسفة بقدر ما تريد عقلاء لديهم أبسط مهارات الإدارة العامة، ويتمتعون بقدرات الحكم.
كان أفلاطون يخشى من سيطرة العواطف التي تتيح للغوغاء اتخاذ قرارات بناءً على الرغبات الآنية، وشخصنة المصلحة، بدلاً من تحكيم العقل والتفكير في المنفعة الجمعية. كما خشي الرجل على قومه من الفوضى والتسيب لأن الديموقراطية تمنح حرية تفوق الاحتياج، مما يضعف الانضباط الاجتماعي، والمعاصرون يدركون أن هذه الحرية تحولت إلى مناقشة الثوابت وتجاوز المسلمات كالذكر والأنثى. وقبل الإعلام الجماهيري، وشبكات التواصل الحالية، خشي أفلاطون قبل أكثر من ألف عام من التلاعب بالعوام من قبل الخطباء السياسيين الباحثين عن هتاف وأصوات الجماهير.
سوء اتخاذ القرار في الديمقراطية أصبح مصدر قلق للسياسيين المعاصرين، فالديمقراطية أتاحت لأشخاص غير مؤهلين الوصول إلى السلطة بسبب شعبيتهم، وقدرتهم على التأثير في الجماهير. تشير الاستطلاعات إلى أن نسبة كبيرة من الناخبين في الديمقراطيات الغربية يفتقرون إلى معرفة كافية بالسياسات العامة، مما قد يؤدي إلى اختيارات انتخابية منفعلة. استطلاعات مثل تلك التي أجراها مركز جالوب توصلت إلى أن 44 % من الناخبين الأمريكيين ركزوا عام 2022 على الاقتصاد كقضية رئيسية، لكن الكثير منهم لم يكن لديهم فهم واضح للسياسات الاقتصادية المقترحة من الحزبين. ووفقا لمركز أننبيرج فإن 35% من الأمريكيين لا يعرفون الفروع الثلاثة للحكومة (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، وهي معرفة أساسية لفهم النظام السياسي، كما أن مركز يوروبوميتر وجد أن حوالي 50 % من المواطنين في دول الاتحاد الأوروبي يشعرون أنهم لا يملكون معلومات كافية عن عملية صنع القرار في الاتحاد الأوروبي. هذا يحيلنا إلى قرار خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وهو قرار اتخذ على أسس شعبوية وعنصرية، وندم عليه العقلاء كثيراً وحاولوا عكسه من اليوم التالي ولم تتح لهم الديموقراطية ذلك. وفي كتاب له صدر عام 2013م وجد إيليا سومين أن حوالي 30 - 40 % من الناخبين الأمريكيين لا يعرفون أسماء المرشحين الرئيسيين أو مواقفهم السياسية الأساسية قبل الانتخابات.
بعض السياسيين المعاصرين يذكرون أفلاطون بالخير، ويترحمون عليه، ويرون أن الديمقراطية تُعاني من «شخصنة السلطة»، حيث يعتمد القادة على الكاريزما أو المحسوبية بدلاً من المؤسسات، وفي تصوري أننا لم نشهد هزيمة وتواضعاً لأداء المؤسسات في الدول الليبرالية الديموقراطية كما نراه في هذا العصر.
لقد أثبتت الديموقراطية أن الأشخاص الذي يأتي بهم العوام مدفوعين بالجهل المقدس والمشاعر الجياشة قادرون على تحييد المؤسسات والتلاعب بها. قال ونستون تشرشل ذات يوم: «الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم، باستثناء كل الأشكال الأخرى التي جُربت»، لكن ما الذي جرى بعد حقبة تشرشل؟ تعاظم التبشير بالعقيدة الليبرالية الديموقراطية وأصبحت ديناً يفرض على المجتمعات وبخاصة في دول العالم الثالث المحتاجة للدعم الغربي، وشرطاً أساساً للحصول على القروض والتسهيلات والحماية.
مرونة الديمقراطية في تصحيح مسارها عبر المؤسسات والانتخابات، يعني إعادة تدوير القناعات والتقاليد، وتكرار نداءات الإصلاح التي لا يسمعها من بيده الأمر. المحرّم في المراجعة والتصحيح هو النظر إلى أنظمة حكم أخرى وتجارب دولية معاصرة حققت أهم ما يحتاجه المواطن وهو الأمن والاستقرار والرفاه الاقتصادي والتنمية المستدامة. تم تكييف الديموقراطية في الصين وروسيا وتركيا وجنوب إفريقيا مثلاً لإنتاج نظم حكم قوية تحقق للشعوب المتطلبات الأساسية، وتتعامل مع أزمات العالم بمسؤولية، فهل يكون هذا النمط من الإصلاح والتهجين في الديموقراطية مقبولاً؟ وما بها الأنظمة الملكية؟ دول الخليج والمغرب والأردن تحكي تجارب صمدت في منطقة مضطربة، وتقدم نماذج حكم مستقرة آمنة نامية مزدهرة. هل يمكن أن يفكر المنظرون السياسيون الإصلاحيون الغربيون خارج نسق تجربتهم الخاصة؟ لفعل ذلك يحتاجون إلى الكثير من الاعتراف والتواضع.