عبدالوهاب الفايز
الكتاب في طبعته المُحدَّثة، الصادر تحت عنوان: (المجموع الأدبي للأمير عبدالله بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود)، عن مكتبة الرشد ومركز العوجا للبحوث والدراسات، أعدَّه واعتنى بإخراجه الأمير تركي بن فهد بن عبدالله بن عبدالرحمن، يُعد من المراجع المهمة التي توثق الموروث الوطني للتجربة السعودية في أدبيات الحكم، وهي تجربة ثرية امتدت على مدى ثلاثة قرون، منذ تأسيس الدولة على يد الإمام محمد بن سعود، رحمه الله.
وفي هذا الكتاب تجتمع سيرة حياة، وتجربة حكم، ودروس ينبغي أن تتعلم منها الأجيال، بما يُثري تجربة الدولة ويُبرز تميزها.
وتقودنا القراءة السريعة لهذا المجموع الأدبي إلى ثلاثة محاور رئيسة:
أولًا: المحتوى النوعي الذي تضمه المجموعة يُؤكد ما اتفقت عليه المصادر التي وثّقت سيرة وحياة الأمير عبدالله بن عبدالرحمن، وأبرزت دوره كأديب ومؤرخ و«فقيه آل سعود» في الدائرة الأولى للحكم. وتُعدّ مكتبته الشخصية دليلًا على هذه المكانة، إذ تحتوي على نوادر المخطوطات والكتب التاريخية والأدبية، وتُعد مرجعًا مهمًا لتوثيق تاريخ الدولة ورجالاتها، وكانت مصدرًا أساسيًا للباحثين والمؤرخين.
وقد أجمع من كتبوا سيرة الأمير على سعة علمه، وحرصه على توثيق الأحداث التاريخية ونقلها إلى الأجيال الجديدة، إلى جانب شغفه بالأدب والشعر، وخصوصًا الجاهلي والإسلامي. وقد جعل منه هذا الشغف مرجعًا ورمزًا ثقافيًا في الأسرة والمجتمع.
ثانيًا: هذا التميز الفكري والفقهي أهّله ليكون المستشار الأول في شؤون الدولة. وكان شعوره العميق بأن الاستشارة أمانة ومسؤولية دينية ووطنية دافعًا له للاجتهاد الدؤوب في طلب المعرفة، وتقصّي دروس التاريخ وتجارب الشعوب، حتى يثري بها رؤيته وتوجيهاته في شؤون الحكم.
ثالثًا: حرصه على الفكر والأدب لم يكن فقط بدافع شخصي، بل كان له تأثير عميق في ثقافة أسرة آل سعود، خصوصًا في مجالي التعليم والثقافة، فقد كان قدوةً للأمراء في الجمع بين العلوم الدينية والثقافة الأدبية، وشجّع أبناءه وأبناء الأسرة على الاهتمام بالعلم والتاريخ، مما ترك أثرًا إيجابيًا في أجيال لاحقة من الأسرة المالكة.
وُلِد الأمير عبدالله بن عبدالرحمن في الكويت سنة 1316هـ، وعاد سنة 1320هـ مع والده الإمام عبدالرحمن إلى الرياض بعد أن استردّها الملك عبدالعزيز.
ويورد الأمير تركي في مقدمة الكتاب أنه تلقى تعليمه التأسيسي على يد والده، ويقول: «أخذ الإمام عبدالرحمن بأسباب غرس سلامة العقيدة في نفوس أولاده، وتولّى رعايتهم بنفسه، وأشرف على ختمهم لكتاب الله في صغرهم، وقراءتهم كتب التفسير والحديث والفقه، ولذلك فلا عجب أن يميل صاحب المجموع إلى محبة العلم وأهله، خاصةً في سنٍّ صغيرة خلال المراحل الأولى لتوحيد المملكة، مما أتاح له فرصة النهل من العلم حتى شبَّ وانخرط مع إخوته في جهود توحيد المملكة.»
لماذا نقول إن لهذا المجموع الأدبي أهمية خاصة؟
عند البحث في الأدبيات التي تناولت هذا الموضوع نجد أن العرف السياسي والثقافي للأمم والدول عبر التاريخ كان يُولي أهمية كبرى للمراجع التاريخية والأدبية في استخلاص العبر والدروس. هذا الأمر كان مشتركًا بين الأمم الأوروبية والصينية والعربية، وإن اختلفت مصادرهم وسياقاتهم الدينية والثقافية.
وقد أشار الأمير تركي إلى أن «تأليف كتب المجاميع الأدبية، واختيار جامعها نصوصًا متنوعة مما يقرأ، كانت ممارسة شائعة، ولها أمثلة تفوق الحصر في التراث العربي والإسلامي.» وأضاف أن «جامع النصوص كان يضعها في سفر واحد ليعود إليها من حين لآخر، إما للاستعانة على الحفظ، أو لحاجته إلى مطالعتها من وقت لآخر، وهذا لا يكون إلا من قارئ نَهِم لكثرة تلك النصوص وتعدد مصادرها.»
ويؤكد أن «نصوص هذه الجموع غالبًا ما تعكس اهتمامات جامعيها؛ ومجموع الأمير عبدالله احتوى على فوائد ونوادر، واختيارات من عيون الشعر والنثر، والخطب، والمواعظ والحِكم، والرسائل، والتراجم، والأخبار التاريخية، وأخبار الناس، وما إلى ذلك.»
عبر التاريخ، كانت الدول تهتم بجمع ما يُثري تجربة الحكم. ففي الصين، كانت النصوص التي يجمعها الحكام أو المستشارون تُستخدم لتعليم الحكّام كيفية الحفاظ على الاستقرار وتجنّب الفوضى، وكان يُنظر للحاكم بوصفه قدوة أخلاقية.
ومن أبرز هذه النصوص «فن الحرب» للقائد سون تزو (القرن الخامس ق.م)، وهو كتاب استراتيجي يحتوي على دروس سياسية وتكتيكية، و»التشون تشيو» الذي يُستخدم لتعليم الأخلاق والحكم.
وفي أوروبا، اعتمد الملوك على النصوص الفلسفية والأدبية لفهم التاريخ وتطوير الحكم، مثل «تاريخ روما» لتيتوس ليفيوس، و»حوليات» تاكيتوس، و»الأمير» لميكافيلي، الذي قُرئ على نطاق واسع في العصور الوسطى والنهضة. كما كان تدوين التراث الأدبي شائعًا، وشجّع ملوك مثل شارلمان وإليزابيث الأولى هذا الاتجاه، وكانت المكتبات الملكية تضم كنوزًا من النصوص التعليمية.
ولا تختلف التجربة السعودية عن هذا التقليد؛ إذ اعتمدت أسرة آل سعود على الشعر والمراجع الأدبية والدينية لفهم فنون الحكم واستخلاص العبر من تجارب التاريخ، وتطوّر هذا التوجه لاحقًا بإنشاء مؤسسات حديثة متخصصة مثل دارة الملك عبدالعزيز.
وبعد هذه الإطلالة السريعة على محتوى الكتاب وما يحمله من دلالات فكرية وسياسية، تجب الإشارة إلى الجهد العلمي والبحثي المتميز الذي بذله المؤلف للتوثق من دقة المحتوى وسلامة المراجع.
وقد أظهر الكتاب عناية الأمير عبدالله في التدقيق والمراجعة، حيث اعتمد المؤلف الهوامش والتصويبات التي وضعها الأمير بخط يده، بعد التحقق منها باستخدام مناهج علمية مطبقة في المؤسسات الأكاديمية.
إنه كتاب مرجعي، وحديقة فكرية وثقافية جمعت عيون التراث العربي، ووضعت بين أيدينا سيرة فكرية تؤكد عمق تجربة الحكم في المملكة.