حمد عبد العزيز الكنتي
بعد زوال جائحة كورونا ظهر لنا الفنان المخضرم عبد المجيد عبد الله بثوب جديد جعلنا لوهلة ننسى أنه يُغني منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان! هذا الثوب جسّد فيما أصبح يعرف فيما بعد بالعلامة التجارية الخالدة التي تحمل وسم (حفلة عبد المجيد).
والتي أضيفت بحروف من ذهب إلى تاريخ هذا المغني صاحب الصوت المميز والأسلوب المختلف ذو الايقاع الغنائي السريع الذي جذب له الجمهور بكافة أعماره من كل مكان، وسبب له زحمة عاشقة جعلت مُنظمين حفلاته يُضيفون أحياناً يوماً آخر لكي يستوعبون هذه الجموع الغفيرة التي جعلت بعض المسلسلات السعودية تُمثل حلقات كوميدية عن سر وسحر شغف الجمهور بهذا الفنان الخلوق الذي يُقدم فناً راقياً يُبهج الجميع.
وعندما يقص الانسان تذكرة حفلة عبد المجيد فهو يضرب بذلك موعداً تلقائياً مع الفرح، هذا الفرح الذي تنتشر عدواه سريعة بين كافة الجماهير العاشقة التي تطفق تردد معه أغانيه التي تحفظها اكثر من حفظها لأسمائها! وربما أكثر من حفظ الفنان لها!
فتتماهى معه في مشهد صاخب تركوا فيه التعاسة خارج المكان، ودخلوا في عالمهم الخاص الذي يُفرغون فيه طاقات الحزن الكئيبة بأخرى مليئة بالسعادة المُؤنسة التي تتمايل فيها أجسادهم لتُصبح كأنها جسد واحد، وتنسجم فيها أرواحهم في مشاهد سريالية تجعلهم ينصهرون في بوتقة فنية واحدة، يغترفون فيها من معين طاقة الحياة.
وقد يقول أحدهم: (هذه مجرد أغاني عابرة)! ولكن الوضع أعمق من ذلك، فهو تعبير عما يختلج في الصدور التي يتناسى أصحابها من الجنسين واقع الحياة ولو لساعات، مُنطلقين تعلوهم الابتسامات البريئة في رحلة راقصة مع تقلبات الحياة، يرددون فيها نصوص الأغاني مع (مجيد) كما يحلو لهم تسميته.
وسواء ركزوا في معانيها أو غابوا في وهج اللحظة الصاخبة التي يطغى فيها أحيانا صوتهم على صوته، وكأنهم ينفثون زفرات نيران ضغوط الواقع وجمر همومه، لعلهم يخرجون من الحفلة بطاقة جديدة، يستعينون بها على قادم الأيام.
ورؤيتهم كباراً وصغاراً رجالاً وإناثاً في مكان واحد وهم يتمايلون في حركة واحدة ويرددون مفردات الاغاني بصوت واحد يصيبنا بالقشعريرة، التي يشعر بها من عاشوا في الأزمنة السابقة حتى وصلوا إلى مرحلة الحياة الطبيعية، التي يتجلى فيها الفن ليّعبر عن مدى الشغف الذي يسكننا، ومدى سعينا الحثيث نحو تشكيل قصصنا الانسانية التي تُمثل واقعنا، والتي نسعى من خلالها إلى بناء شخصياتنا الافتراضية ورسم خيوط قصتنا التنكرية التي نُخاتل فيها صمود الحقيقة، نحو تخليد أساطيرنا الجديدة التي لم يقولها الأولين، ولا يهم إن صدقها أو كذبها الآخرين.
إن حفلة عبد المجيد ما هي إلا نموذج بسيط من حفلات كثيرة يحكي لنا المشهد الذي نراه فيها ومن خلف الشاشات مدى التحوّل الجميل الذي شهدته بلادنا الغالية، فكل شخص فيها يُعبر عن حقبة زمنية معينة، وكل وجه فيها تحكي لنا تعابيره مدى العوالم المتشظية أو المطمئنة التي تسكنه، وكل صرخة فيها تُمثل سردية تائهة لم تجد من يكتبها لتبحث في قلم الكون عن الحكَّاء المفتون بهذا المشهد السرمدي المُدهش.
فحفلة مجيد إطلاقاً ليست مُجرد حفلة، فهي تتجاوز ذلك إلى أبعاد عميقة تحفر في أسرار الذات التي تسعى للتعبير عن تناقضات الكون، وتقلبات الحياة، وغرابة الإنسان الذي يُعد كونا بذاته، وكأن الشاعر محمد عبد الباري يعبر عنهم بقوله: (دخلنا إلى ذاتنا. نلتقي. بها. فتشظت إلى ألفِ ذاتْ).
فتمضي بأقدام مُتأرجحة في رحلة مليئة بالنسيان الذي تلتقي فيه عيون الجمهور بنظارات عبد المجيد تاركة أشرعة كلمات أغانيه المُميزة تمضي نحو فنار القلوب حينما تُلامسها الألحان الجميلة، فتُوقظ مشاعر مُختلفة في الأفئدة، وسط أجواء مليئة بالأفراح التي تعمُها البهجة والسلام والحب والوئام، شعارهم حينها (لا يوجد غريب بيننا، فكلنا عائلة واحدة)
وهذه هي الأجواء التي يُحب فيه الجميع أن يروي عطش المسافات بجوقة الفنون الجميلة التي يركضون فيها خلف امتلاك وهج اللحظة، وحسبهم إذا لم يتحقق لهم المُراد؛ يكمن في استمتاعهم بجمال الحفلة – أقصد الرحلة- حتى ولو لم يتحقق الوصول، كما قال صديقي: (الفن ألا تصل)!
** **
- المدينة المنورة