د. سليمان بن ضيف الله اليوسف
كتبت عن بعض من عرفتهم في هذه الدنيا من قرابة وجيران، واليوم سأذكر أحرفاً من قلبي عن قلبي الذي لا يزال في قلبي عن أمي عن شريكة الدرب في هذه الحياة، حيث عشت معها أكثر من خمسين سنة حياة عجيبة مليئة بالصبر والكفاح من هذه المرأة الجليلة الكريمة الشهمة، فلا تلمني أخي - جزاك الله خيراً- فهي أمي التي كانت مع أمومتها تقوم بدور والدي، والله لقد قامت به بشكل عجيب قلما يوجد!
ولقد كنت معها في طوال هذه المسيرة الخمسينية وسنيات فكم وكم من معاناة عشناها مع أمي سوياً، فقد شاركتها في تلك الحياة بآلامها وآمالها في مسيرة جميلة جليلة رائعة نبيلة كجمال تلك الأصيلة كريمة الفرع طيبة المحتد، سقى الله قبرها شآبيب رحمته، فيا رعاك الله أكرر عليك لا تلمني! لقد كتبت عن فلان وفلان أكرم بهم أفلا أكتب عن أمي، لا يهمني أن يقرأ حرف من مكتوبي هذا بقدر ما يهمني أن أكتب عن أمي، ليس لأنها أمي فقط، ولكن لأنها إنسانة عظيمة شهمة نبيلة، بفقدها فقدت الكثير والكثير من حياتي، لكنني لم أفقد منها سوى شخصها الكريم أما ما سوى ذلك فلا يزال معي هي أمي، هي أستاذتي قبل شيوخي ومعلمي، هي أبي قبل أعمامي خير أعمام، هي أمي وهي أمي فرحمة الله عليك يا أمي.
عرفت الدنيا قبل خمسين سنة وسنيات لا أعرف إلا أمي وأذكر والدي خيالاً كأنه حلم، كانت أمي كل شيء وهي امرأة متوكلة على ربها لا تستسلم لمصاعب الحياة أبداً، بل تواجه الحياة بكل شجاعة وعصامية وأمل مع مراراتها التي تجرعتها آلاماً متتابعة لكن الإيمان جذوة لا يخبو معه الأمل.
بدأت أمي حياتها باليتم، حيث توفي أبوها الفارس الشجاع عبد العزيز بن عبد الكريم الخطيب، رحمه الله في عام 1358 تقريباً، وكان من فرسان الشماسية وأبطالها، فقد توفي جدي لأمي (الخطيب) وأمي طفلة لها سنتان أو تزيدان قليلاً، وعاشت مع أمها رقية البراك الحماد وكانت جدتي هذه امرأة صالحة عابدة توفيت رحمها الله عام 1429هـ وعاشت أمي حياة يتم مرهقة جداً زيادة على رهق الحياة وشدتها في ذلك الحين.
حدثتني مراراً أنها قبل البلوغ تسير في الصحراء فتبعها الذئب وظل معها يريد افتراسها بعد أن تبتعد عن الناس وحين خلا له الجو إذا برمية تصوب له من بعيد فترديه قتيلاً وتمضي الطفلة إلى حياتها التي قدرها الله بعد أن كانت قريباً من فم الذئب، وهذا الرجل المنقذ رحمه الله سمته أمي لي أنه محمد السابق الفوزان، وكان ابن خالة أمي كان يصطاد في البر حول ما يسمى (بالبعول) وهي مزارع القمح على مياه المطر في المستوي حيث كانت أمي مع أقاربها حول زرعهم أسوة بنظرائهم من أهالي الشماسية؛ فهذه عادة سنوية لهم، وهذه البعول هي أحد ما عمرت به الشماسية ومثيلاتها فإن البعول تمثل نشاطاً بشرياً يمد الشماسية وأهلها بالحياة ولازم القوت، بل أهم القوت لدى الناس وهو البر الطيب، فالبر في زروع البر مع النخلة وسط البلد هما عماد الحياة في الشماسية.
وسبحان ربي أراد أن تحيا هذه البنت وتعيش حياة قريبة من حياتها قرب فم الذئب.
توالت الأيام سريعة بأمي حتى كبرت وصارت مطمع الخطاب، وكان جدي محمد بن عبدالكريم اليوسف قد تزوج أم أمي كريمة الحماد آنفة الذكر في زواج ناجح طيب ومصاهرة كريمة لدوحة الكرم الحمادية النائفة، فاتفق مع جدتي أن يزوج بنتها ولده ضيف الله (والدي) وكان والدي رحمه الله يطلب الرزق في الكويت، وكان كما حدثني عدد من أهل الشماسية منهم الشيخ خطيب الجامع الكبير سليمان بن إبراهيم الراشد العقل ورجل الأعمال صالح بن محمد السنيدي قائلاً: كان والدك رجلاً باراً بوالده، بل إن الشيخ العقل قال لي: إنه لا يعرف أحداً أبر من ضيف الله رحمه الله بوالده.
وكان والدي مشغولاً بكفالة والده، حيث إن لجدي ولداً من عدة زوجات من زوجته الأولى من المصيبيح، والثانية من المسند، والثالثة من الحماد، فكان والدي مشغولاً عن نفسه وعن قضية الزواج بمعونة والده فكان يعتذر لأبيه بهذا المانع، لكن جدي محمد أصر على تزويجه وأقنعه بأنه ما دامت الزوجة بنت زوجته فمعناه أن معونته لوالده ستكون كما هي!
تم هذا الزوج بعد لأي وصعوبة لكن الله أراده!، تزوج والدي والدتي رحمهما الله وكان والدي رجلاً كسوباً طوال وقته على ظهر سيارته حيث كان من القلائل الذين يملكون سيارة ويحسنون القيادة، فطوراً تجده في الكويت وطوراً تجده في الرياض يتكسب في أصناف طرائق المعاش، وله سيرة ولله الحمد طيبة جميلة يعرفها معاصروه من أهل الشماسية، ظل مع أمي خمسة عشر عاماً، وفي منتصف الخمسينات من عمره يصاب بمرض لا يبرح معه قليلاً حتى يتوفاه الله - رحمه الله- تاركاً لأمي بنتين وخمسة أبناء فتبدأ أمي بعد نهاية حياتها اليتيمة في رعاية أيتامها!
وكانت قبل سنة من وفاة والدي فقدت ابنها البكر من الذكور في حادث سير شمال الشماسية واسمه - رحمه الله- عبد العزيز فبقي لها إبراهيم ومحمد وسليمان وعبد الكريم وضيف الله وهيا وحصة ثم أخي عبد الرحمن من زوجها عمي عبد الله بن عبد العزيز اليوسف كما سيأتي..
وكانت وفاة والدي في عام 1396 تقريباً، ولا أذكر من والدي شيئاً سوى أحداث وفاته رحمه الله كأنها اليوم محفورة في ذهني بكامل تفاصيلها، سأرويها عند متابعة حروفي هذه وهي صور يجري معها الألم والحزن ويتدفق منها روعة المصاب.
فالحمد لله على كل حال، والحمد الله الذي قضى ولطف .. و(للمقال متابعة).
اللهم ارحم أمي وأبي وأهلي والمسلمين وأجمعنا بهم في جنات النعيم..
** **
الشماسية - القصيم