خالد محمد الدوس
في زحمة الحياة، وتحت وطأة السنين، ما زال هناك رجالٌ يصنعون من إرادتهم سُلّماً يصعدون به إلى معالي القيم والمبادئ والفضيلة، ويحولون (ضعف) الجسد إلى قوة إيمان وصلابة روحية.
أبي -رحمه الله- واحد من أولئك الذين جعلوا من المسجد قبلةً لا يتخلفون عنها، مهما اشتدت الظروف، وتكالبت الأحوال، وزادت المتاعب.!
في حياته -رحمه الله- كانت الصلاة معراجه الرّوحي، وكنت أراه يمسك (عكازُه) الرباعية بيديه المرتعشتين، ويتكئ عليها بكل ما أوتي من قوة.. وقد كبر سّنه ووهن العظم واشتعل الرأس شيبا، ثم يبدأ رحلته الشاقة إلى بيت الله تعالى. بخطواتٌ متثاقلة، وحركات بطيئة ،وسط إصرارٌ لا يعرف الكلل ولا الملل. الساقان قد تثاقلتا، والظهر انحنى تحت وطأة السنوات وإرهاصاتها، لكن العينين كانتا تشعان إيماناً صادقا وحباً للصلاة.
في الطريق إلى المسجد، يتوقف بين الحين والآخر ليستريح برهة، لكنه لا يتراجع.. يواصل الهمة.. بعزيمة الرجال الصالحين.. الصادقين.. الناصحين..
عندما يسأله البعض عن سبب إصراره على الذهاب إلى المسجد رغم المشقة والتعب وثقل الحركة، يبتسم تلك الابتسامة الهادئة ويقول:(الصلاة هي نور القلب.. ورباط العبد مع خالقه.
رحمك الله يأبي لقد كنت مثالاً للعبد الصالح.. الصابر المحتسب.. تجاهد في مشيك إلى بيت الله تعالى رغم الصعاب.. فكانت خطواتك إلى المسجد تذيب الذنوب كما تذيب الشمس الجليد..!
لقد كانت (عكازك) دليل قوتك لا ضعفك.. فما أجملك وأنت كنت تتوكأ عليه ساعياً إلى رضوان ربك سبحانه وتعالى.. ما أعظم إرادتك يا أبي كنت تتحمل المشقة وتجاهد نفسك لتسبح الله في بيته فكانت كل خطوة تقرّبك منه خطوةً إلى الجنان.. بروح الإيمان.. والله المستعان.
اللهم إن (أبي) قد تعب في سبيلك، فاجعله في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك وأعـّد عليه حلاوة تلك الخطوات التي كان يخطوها إليك وهو صابر محتسب..
(أبي) كان المسجد قبلة روحك فما أهنأك الآن، وأنت في رحاب الرحيم.. تسبّحهُ حيث لا تعب ولا نصب..
رحمك الله وأسكنك الفردوس الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا.
عكازة في الدنيا تسند جسدك.. وإيمان في القلب.. يرفع درجاتك.. فاللهم أكتب له بكل خطوة حسنة.. وبكل ألم كفارة وأرفع مقامه في عليين.
هذه هي التربية الحقيقية (يا أبي)! لقد علمتنا -من غير كلام- أن الإيمان ليس شعارات ترفع، بل أخلاق تُزرع.. وأفعال تثبت.. وحُب يمنح.. علمتنا أن العجز الحقيقي ليس في (الجسد)، بل في (الروح) التي تستسلم. !!
اليوم، تذكرت علاقتك مع المسجد رغم مرور خمسة أعوام على رحيلك ..فكان عكازك يذكرنا بأن السائر إلى الله لا يُعاق.. والمقبل عليه لا يُخاب.. فاللهم أكتب له أجر الصلوات التي صلاّها.. وأجر الخطوات التي لم يتمكن منها.. وأكتب له بكل مرّة تألم فيها وهو يمسك عكاّزه.. أجر المجاهدين في سبيلك.