في مشهد الاقتصاد العالمي المتحول، أصبحت الصناديق السيادية أذرعًا استراتيجية للدول، ليس فقط لتوظيف الفوائض المالية، بل لتشكيل مستقبل الاقتصاد الوطني وتحقيق الاستدامة عبر الأجيال. وبينما يُشار غالبًا إلى صندوق النرويج السيادي كنموذج عالمي في الحوكمة والاستثمار طويل الأجل، يبرز صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) كحالة صاعدة بقوة، تمتزج فيها الرؤية الجريئة بالإمكانات الضخمة. والسؤال اليوم لم يعد: «هل يمكن لصندوق الاستثمارات العامة أن يلحق بالنموذج النرويجي؟»، بل أصبح: «كيف يمكن له أن يصنع نموذجًا خاصًا به ينافس ويتفوق؟»
منذ إطلاق رؤية السعودية 2030، شهد الصندوق نموًا استثنائيًا، وفي أقل من عقد، تحوّل صندوق الاستثمارات العامة من جهة استثمارية تقليدية إلى محرك محوري في التحول الاقتصادي. من استثمارات نوعية في شركات عالمية مثل Lucid وUber، إلى إطلاق كيانات وطنية كـ «روزنا» و»الرياض آير»، أصبح صندوق الاستثمارات رافعة مزدوجة: تجذب الاستثمارات الأجنبية وتطلق المبادرات المحلية.
وفقًا لتقارير 2024، بلغت أصول الصندوق 3,53 تريليون ريال سعودي (حوالي 940 مليار دولار) متجاوزًا المستهدف البالغ 3,3 تريليون ريال لهذا العام، مع هدف معلن للوصول إلى 2 تريليون دولار بحلول 2030. وقد تنوعت استثماراته بين قطاعات التقنية، الترفيه، اللوجستيات، السياحة، والبنية التحتية الخضراء، مع توجه قوي نحو تقليل الاعتماد على العوائد النفطية. كما أسهم الصندوق في خلق أكثر من 1,1 مليون وظيفة مباشرة وغير مباشرة، وتأسيس 99 شركة في محفظته، مما يعكس التزامه بتحقيق الأثر الاقتصادي المستدام.
ورغم أن الصناديق السيادية تُقاس تقليديًا بمؤشرات العائد، فإن التجربة السعودية تشير إلى ضرورة تطوير معايير جديدة لتقييم الأداء. فكيف يمكن قياس قدرة صندوق على إطلاق قطاعات غير مسبوقة؟ أو بناء مدن مستقبلية؟ أو تغيير صورة الدولة في أذهان المستثمرين العالميين؟
مقارنةً بصندوق النرويج، الذي يدير أصولًا تتجاوز 1,5 تريليون دولار من فوائض بيع النفط واستثمر 100 % خارج الاقتصاد النرويجي، نجد صندوق الاستثمارات اختار نموذجًا مغايرًا: استثمار داخلي ضخم لتحفيز الاقتصاد، مع توسع دولي محسوب. لا شك أن ما يحدث اليوم على أرض المملكة يتطلب مقاييس مبتكرة، تضع في الحسبان الأثر الاقتصادي طويل الأجل، ودور الصندوق في إعادة هندسة الاقتصاد الوطني.
وعلى الرغم من الريادة النرويجية في الشفافية والتوزيع العالمي للأصول، يمتلك الصندوق مزايا استراتيجية قد تؤهله لتفوق نوعي في العقد القادم:
1 - الموقع الجيوسياسي والفرص التحولية
يقع الصندوق في قلب اقتصاد ناشئ شاب وطموح. بعكس النرويج التي تستثمر في اقتصادات ناضجة، يملك صندوق الاستثمارات فرصة لقيادة التنمية داخل بلده، والاستفادة من التغيرات الجيوسياسية في المنطقة، والتحولات الاقتصادية الكبرى في آسيا وإفريقيا.
2 - تكامل الرؤية والسياسات
يعمل الصندوق كأداة تنفيذ مباشرة لرؤية 2030، ما يمنحه قدرة على المواءمة مع الاستراتيجيات الوطنية. النرويج تفصل بين السياسة والاستثمار، وهي ميزة من حيث الحوكمة، لكنها تقيد القدرة على إحداث تحولات اقتصادية عميقة.
3 - القدرة على خلق أسواق جديدة
لا يقتصر على الاستثمار في أسواق موجودة، بل يصنع قطاعات جديدة كالسياحة الثقافية والرياضات العالمية والاقتصاد الأخضر، مما يمنحه قدرة على توجيه الاقتصاد نحو التنوع.
خارطة الطريق: كيف ينافس صندوق الاستثمارات العامة السعودي صندوق النرويج في 5 خطوات استراتيجية؟
1 - ترسيخ حوكمة عالمية المستوى
للمنافسة على الريادة، يجب أن يُعزز الصندوق معاييره في الشفافية والإفصاح والاستقلالية التشغيلية، من خلال نشر تقارير أداء فصلية مفصلة، وإدراج بعض شركاته في السوق المالية لتعزيز المساءلة.
2 - التحول إلى إدارة الأصول المتخصصة
بدلًا من الاعتماد الكلي على التمويل الحكومي، يمكن للصندوق تطوير ذراع استثمارية تدير أموال أطراف ثالثة، مثل صناديق التقاعد والمؤسسات المالية، بما يعزز الكفاءة والربحية ويزيد تأثيره العالمي.
3 - توسيع الحضور الدولي من خلال الشراكات السيادية
عبر التحالف مع صناديق شبيهة (كصندوق سنغافورة أو كوريا الجنوبية) وتأسيس صناديق مشتركة، يمكن للصندوق تنويع مخاطره وتعزيز حضوره في أسواق جديدة، خصوصًا في التكنولوجيا والبنية التحتية الخضراء.
4 - تصميم مؤشرات أداء تنموية إلى جانب العوائد المالية
المنافسة مع صندوق النرويج ليست فقط على حجم الأصول، بل على التأثير. لذا، يجب قياس مساهمة استثمارات الصندوق في خلق الوظائف، وتحفيز الابتكار، وتقليل الانبعاثات، وتمكين القطاع الخاص.
5 - إنشاء مركز «PEMA-PIF»
مهمته إجراء تقييم اقتصادي واستثماري دقيق للمشروعات المقترحة، ووضع نماذج اقتصاد كلي وجزئي لدراسة الأثر التنموي على الاقتصاد السعودي، خصوصاً بما يحقق مستهدفات رؤية 2030. وذلك من خلال تقييم جميع المشروعات من حيث العائد الاقتصادي، الأثر على سوق العمل، القيمة المضافة للاقتصاد، ومدى مواءمتها لرؤية 2030 بالإضافة الى تقديم دراسات تحليلية تدعم قرارات مجلس الإدارة بما يضمن توازن العائد الربحي مع الأثر الوطني وتطوير مؤشرات أداء (KPIs) لقياس نتائج المشروع اقتصاديًا واجتماعيًا بعد التنفيذ.
6 - تأسيس أكاديمية استثمارات سيادية
لضمان الاستدامة المؤسسية، يمكن إطلاق مركز أبحاث وتدريب متخصص لتطوير كوادر وطنية في إدارة الأصول، الحوكمة، الاستثمار المستدام، وتحليل المخاطر، ليصبح الصندوق مصدرًا للمعرفة كما هو مصدر للثروة.
ربما تتمثل أكبر فرصة للصندوق في تبني مفهوم «الاستدامة التنموية» كركيزة استثمارية، وليس فقط كعامل مساعد. فبينما يخصص صندوق النرويج نسبة ضئيلة لاستثمارات مستدامة، يمكن للصندوق أن يكون أول صندوق سيادي يجعل الاقتصاد الدائري، وتمويل الهيدروجين الأخضر، ومبادرات الزراعة الذكية محاور استثمار مركزية.
السؤال الحقيقي ليس إن كان بإمكان السعودية أن «تلحق» بالنموذج النرويجي، بل كيف تصمم نموذجًا جديدًا يناسب سياقها، ويفتح الباب أمام الدول النامية لبناء صناديق سيادية قوية تتحرك من أجل التنمية لا فقط من أجل العوائد.
إن صندوق الاستثمارات العامة لا يحتاج إلى تكرار تجربة بعينها، بل إلى إعادة تعريف مفهوم الصندوق السيادي في القرن الحادي والعشرين: أداة سيادية لتحقيق التحول الاقتصادي الشامل، مدفوعة بالطموح، ومدعومة بالحكمة، ومبنية على الابتكار.
** **
د. هدى منصور - أستاذ الاقتصاد متخصص بتحليل البيانات والابتكار الاقتصادي