د. محمد بن إبراهيم الملحم
نشرت إحدى الأمهات عبر حسابها في تطبيق تيك توك TikTok صورة ابنها الوحيد (كما ذكرت في التعليقات) وهو جالس يلبس بشتا وعقالا واضعا رجلا على رجل، وقد زين الخاتم والمسباح يده التي وضعها على ركبته بطريقة تبرز ساعته، وينظر للكاميرا مبتسما وممتلئا بالفرح والسرور، وقد بدا لي أنه من طلاب المرحلة المتوسطة فيما يبدو، وكتبت الأم على الصورة «نص السنة غايب، والنص الثاني متأخر، يداوم أول حصتين ويستأذن، تهاوش 3854، نص الدرجات بالواسطة، وهذه صورته بحفل التخرج».
وتعجبت فقلت لعلها مزحة أو لعلها صورة شخص آخر فدخلت التعليقات لأجد أنها صورة ابنها فعلا وهي تفتخر بذلك، وقد سألتها إحدى المعلقات: هل هو ابنك؟ قالت نعم وهو وحيدي، فردت عليها وأنا مثلك عندي ابن مثله تماما، بل أنت تقريبا كأنك تصفين حالة ابني، ثم تابعت قراءة التعليقات لأجد أن هناك عشرات من المعلقات كلهن يقلن «مثل ابني» أو «عندي مثله» وكذلك كان هناك بعض الآباء ردوا بردود مماثلة مشيدين جميعا بأبنائهم «المقصرين» و»المستهترين» بجدية الدراسة والتعلم واحترام قيمة المدرسة، وهذا ما شدني في هذه التعليقات التي يفتخر فيها الآباء والأمهات بهذا النوع من الأبناء! ومع أني أتفهم أن المبالغات الواردة في عبارة الأم صاحبة المنشور الأساس هي من قبيل المبالغة لجلب الفكاهة والمرح، بل إني لن أستبعد أن يكون ابنها عكس ذلك وهو من المتفوقين وإنما أرادت أن تنشر مزحة لطيفة، لكنما التعليقات أجزم أنها جادة وصحيحة، وتعكس حالات حقيقية، ولست أناقش هنا تأخر الطلاب عن الدراسة أو تغيبهم أو كثرة استئذانهم أو مشاكلهم أو تقصيرهم في الاستذكار أو إهمالهم التحصيل الدراسي، وإنما يهمني ما يحمله الأباء والأمهات من فكر مغرق في الترسل نحو هؤلاء، وإن شئت فقل مفرط في الإيجابية لدرجة الاستهتار وعدم وضع الأمر في نصابه ومكانه الصحيح، بل إن ما ذكر عن التهاون في الدراسة والحضور هو الصفة الظاهرية التي يمكن الحديث عنها بينما لايستبعد (بل أكاد أجزم) أن من بين هؤلاء المعلقين من يقوم أبناؤهم بالغش في الاختبارات بعلمهم ولا يردعونهم عنه أو يهولون من أمره، ولن أستغرب لو قال لي أحد ما إني أعرف عدة آباء أو عدة أمهات يجهزون البراشيم لأبنائهم!
هذه الفئة من الطلاب لم يقتصر الأمر على مجرد الاحتفال ب «نجاحهم» في وسط البيت وبين إخوانهم وأسرتهم الصغيرة أنهم حققوا إنجازا بانتقالهم من صف إلى آخر (مهما كان هذا النجاح منخفضا وبدرجات متواضعة) إلا أنهم يحتفلون به اليوم في منصات السوشال ميديا، بينما في الماضي لم يكن مثل هذا الشخص يحصل على مثل هذا الاحتفال وإنما كان الاحتفال خاصا بالمتفوقين، هذه الفئة من الآباء والأمهات الذين يمارسون هذه الممارسات متعدين التدليل إلى درجات متقدمة من الإفساد Spoiling هم «مفسدون» في الأرض، وهذا الإفساد أستعيره هنا من لفظة مستخدمة عند كبار السن في السابق عندما كانوا يقولون لشخص ما إنك تفسّد ابنك بتشديد السين وكذلك يقال للأم إنك تفسّدين ابنتك وذلك إذا تركتها دون أن تربيها على العمل والإنجاز والتبكير في الاستيقاظ اليومي والقيام بدورها المتوقع منها في أعمال المنزل، كما هو معروف في ذلك الجيل، فهذا التفسيد كان وصمة عار على الأم أو على البنت أما اليوم يفتخر به مع الاسف!
ولابد أن نتساءل من هم هؤلاء الآباء والأمهات: هل هم من الفئة المتفوقة دراسيا المتقدمة في عملها أيضا؟ لا أتوقع ذلك ، فلا شك أنهم كانوا من المهملين وهاهم ينقلون عدواهم لأبنائهم ليخرجوا لنا جيلا «مفسّدا» فاسدا.
إن ترك هذه الفئة تستمر في هذه المفاخرة بالأولاد المقصرين ينذر بخطر شديد، ومع أننا نعاني في المجتمع كثيرا من حالة ما يسمى بـ»الهياط» ولكنه في غالب أمره يرصد في أمور الكبار في شؤون حياتهم كحفلاتهم ومناسباتهم وما إلى ذلك، لكن أن يدخل هذا السلوك في عالم الأطفال والطلاب متمثلا في الاحتفال و»الهياط» حول نجاح شكلي ظاهري لا قيمة له ونشره على الملأ، فإنه سيشوه قيم الطلاب ومفاهيمهم ونظرتهم للحياة، إن نظرة الطلاب يجب أن تكون قائمة على تقدير الاجتهاد والعمل الجاد واعتقاد أن النجاح هو في تحقيق نتائج جيدة وليس في التقصير والإهمال، ومع الأسف أن هذا النجاح الذي تسميه المؤسسة التعليمية «نجاح» قد غيّر مفاهيم المجتمع، ودرّب أفراده عبر سنوات طويلة على تقبل هذا المفهوم الغالط، وكل ذلك بحجة «الإيجابية» القائمة على نبذ كلمات الفشل والرسوب والتأخر الدراسي من قاموس التربويين لنجده مع الوقت يكاد يخرج من قاموس الأنظمة التعليمية! ولا أدري حتى متى يستمر هذا النزيف المؤلم في جسد التربية والتعليم، والذي انتقل اليوم من مؤسستها إلى البيوت لينحت بعد ذلك في مفاهيم قيمية مثل مفهوم النجاح، والذي يعاد تعريفه اليوم بتعريف جديد يشوه الحقيقة ويقلب المفاهيم.