عايض بن خالد المطيري
في رحلة الحياة الطويلة، يكافح الأب ليُوفّر لأبنائه كل ما يحتاجونه؛ بدءًا من التربية السليمة، مرورًا بالتعليم، ثم التوظيف، وأخيرًا تأمين مستقبلهم بالزواج والاستقرار.
إنه ذلك الأب الذي أفنى شبابه في العطاء، وكرّس جهده ليجعل أبناءه يقفون على أقدامهم بثبات. لكن حين يصل بعض الآباء إلى مرحلة يكون فيها بحاجة إلى الرعاية والراحة، يجد نفسه في موقف لم يكن يتخيله؛ حيث يتحول إلى مجرد وسيلة لتحقيق طموحات أبنائه الاجتماعية، بدلًا من أن يكون موضع عنايتهم واهتمامهم.
يبدأ السيناريو حين يرى بعض الأبناء في والدهم فرصةً ليكون «شيخًا» أو «وجيهاً للجماعة»، أو بالأصح «وجه العائلة». يجتمع الأبناء ليقرروا أن الوقت قد حان لتتويج والدهم بهذه المكانة، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار وضعه الصحي المتراجع أو حاجته للهدوء والراحة. يبدأون في تجهيز متطلبات هذه المكانة الاجتماعية: يتم بناء مجلس كبير، وتجهيزه بالأثاث والمعاميل، مع استحداث برامج استقبال للضيوف يوميًا، بل والتوصية بتغطيات إعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليحضر الجميع. هكذا، تتحول حياة الأب إلى التزام اجتماعي دائم، يجعله في دائرة لا تنتهي من الاستقبال والحديث والمجاملات.
لا يدرك الأبناء أنهم بذلك يضعون والدهم تحت ضغط نفسي كبير؛ إذ يُضطر للجلوس لساعات طويلة، والحديث المتكرر مع الضيوف، وتحمل الأعباء المالية المتزايدة. بل إن بعض الأبناء لا يمانعون في استنزاف ما تبقى من مدخراته لإكمال هذا «المشروع»، وقد يلجؤون إلى القروض لتغطية التكاليف، غير مدركين أن هذا كله لا يمثل أولوية في هذه المرحلة من حياة والدهم.
وحين يتعرض الأب لوعكة صحية، تبدأ المرحلة الأكثر قسوة. فبدلًا من أن يكون له تأمين صحي مميز يضمن له علاجًا راقيًا وسريعًا، تجده يقف في طوابير الانتظار في المستشفيات العامة، يحجز مواعيده بعد أشهر، ويعاني في كل مرة يحتاج فيها إلى متابعة صحية دقيقة. وعندما يتفاقم وضعه الصحي، يبدأ الأبناء باللجوء إلى القبيلة بحثًا عن متبرعين لعلاج والدهم، وكأن الأمر لم يكن متوقعًا أو يمكن تداركه مسبقًا.
المفارقة هنا أن هؤلاء الأبناء، الذين لم يترددوا في إنفاق الأموال الطائلة على بناء المجلس والديوانية، لم يفكروا في تخصيص جزء من تلك الأموال لتأمين طبي VIP، يضمن لوالدهم رعاية صحية مميزة في أرقى المستشفيات، دون عناء أو تأخير. فلو أنهم استثمروا مبلغًا في راحته بدلاً من مجدهم الاجتماعي، لكان ذلك أعظم برًّا وأجمل وفاء، ولشعر الأب بأن جهوده طوال حياته أثمرت في رعاية واهتمام حقيقي.
هذه القصص المتكررة في المجتمع تدعو إلى إعادة التفكير في الأولويات. فليس من البر أن نرهق والدينا بالمجاملات الاجتماعية والمناصب الشكلية على حساب صحتهم وراحتهم. البر الحقيقي هو أن نؤمّن لهم حياة كريمة في شيخوختهم، حيث يجدون الراحة والرعاية التي يستحقونها، بعيدًا عن الضغوط والالتزامات التي لا حاجة لهم بها. فكم من أبٍ كان يمكن أن يعيش سنوات إضافية بصحة جيدة - بمشيئة الله - لو حصل على رعاية طبية مناسبة، وكم من والدٍ غادر الحياة قبل أوانه بسبب الضغوط الاجتماعية والإهمال أو سوء التقدير من أقرب الناس إليه.
السؤال الجوهري: هل الأولوية أن يكون الأب «شيخًا» يجلس في مجلس عامر بالزوار على حساب صحته وراحته، أم أن يكون والدًا مرتاحًا يجد في أبنائه سندًا حقيقيًا في آخر أيام عمره؟.