د. عبدالحق عزوزي
دائماً ما تكون لي مع طلبتي في الجامعة حوارات عن علاقة الثقافة بالمجال السياسي العام؛ خاصة وأن عدم التدقيق العلمي عند بعض الكتاب يجعل من هؤلاء الطلبة عرضة لمسارات فكرية خاطئة، وتجعلهم بدورهم «سلبيين» ولا ينظرون بنظارات عليمة دقيقة ولا جامعية هادفة؛ فكل ما يتعلّق بالإنسان العربي والعقل العربي فهو في نظرهم رديف للتراجع السياسي والحضاري والتخلف الفكري والحداثي؛ فأصبحت هاته التوجهات، العامل المستقل في تفسير المجال السياسي العام في الوطن العربي.
ونجد في المكتبات الغربية والعربية على السواء تمادياً في الاستهانة بالعقل والذات الحضارية العربية، وعندما توصف الذهنيات والمسالك، فإنها تنعت بالسلطوية والبطركية والإرث المستحكم، والجامد الذي لا يمكنه أن يتغير، والمعطى القار والثابت الذي لا مرد له؛ فنجد إيلي قدوري يقول إنه (ليس هناك في التراث السياسي الإسلامي شيء مما يجعل أفكاراً منظمة كالحكم الدستوري والتمثيلي أليفة أو قابلة للفهم) وروج روفائيل بطي لفكرة العقل العربي (The Arab Mind) بمعنى الحتمية التاريخية والجمود عند العرب؛ وجاء فؤاد إسحاق الخوري بكتابه «الذهنية العربية: العنف سيد الأحكام» ليرى في التقاليد وبنية النفوذ الشبيهة «بحبات العنقود» مسالك تطمس على قلوب وعقول المرؤوسين والمحكومين، فيصعب بذلك إنشاء «سوق سياسي» مستقل يتنافس أطرافه فيما بينهم؛ ونجد عالما أنثروبولوجيا آخر وهو هشام شرابي يأتي بنظرية الأبوية المستحدثة التي لا تتماشى وقواعد الحداثة، ولها انعكاس مباشر على السلطوية السياسية؛ ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن المفكر المغربي عبد الله حمودي في نظريته عن الشيخ والمريد.
والأدهى من ذلك هو أن بعض المختصين في العلوم السياسية كجيل كيبيل وأوليفيي روا ساروا بطريقة ذكية على مناهجهم بإسقاط نتائجهم كمسلمات يبدأون بها تحاليلهم لتفسير الظواهر السياسية في الوطن العربي، وهي أيضاً في نظرهم لصيقة بالداء السلطوي المتوارث وبالبنية الثقافية المتقادمة.
ونجد كتاباً معاصرين يحاولون شرح ما يجري اليوم في ليبيا وسوريا ولبنان مثلاً بناء على هاته العوامل سالفة الذكر دون فهم مكونات المجال السياسي العام... والحقيقة أن في هاته البلدان تتداخل عوامل متعددة منها عمليات التجييش الطائفي، وإشعال وقود التشرذم ورفض الآخر ولكن لأي هدف؟ إنها جميعها لأهداف سياسية ولتحقيق الزعامات السياسية ولتحقيق أجندات داخلية وخارجية، بمعنى أن العامل السياسي الذي كان سلفا هو المسؤول عن غياب نسائم الانفتاح السياسي في بعض البلدان هو المسؤول اليوم عن الانفلاتات الأمنية والتطاحنات بين إخوة الأمس، والتمزيقات المتتالية الذي تجد منها بعض الدول ملاذاً لتحقيق مصالحها سراً وبنتائج سريعة... وقد سبق وأن شرحت جزءاً من هاته الفكرة في هاته الصحيفة الغراء عندما تناولت موضوع الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان؛ وأكدت أن مريدي الطوائف هم كثر في البلد للأسف الشديد وهم يقوضون كل محاولة لبناء وعي سياسي جديد بالمجال السياسي... ووجدت أن من بين الأسباب الحقيقية لما يقع فيه لبنان اليوم هو غياب الحكامة وغياب الواقعية في التسيير، وغياب الأطر الكفئة، أو وجودها في أماكن بعيدة كل البعد عن المناصب التي يجب أن تنالها، وكثرة المحسوبية والرشوة وتوجيه الاستثمارات في اتجاهات خاطئة تأتي على الميزانيات السنوية دون أن يجد منها المواطن أي فائدة.
من يتصفح كتب العلوم السياسية سيجد فيها المتتبعون، الوصفات الطبية لبناء الدولة الحديثة ولبناء الأنظمة القائمة على جدران من الثقة بين النخب السياسية في الحكم والمجتمع المدني، سيجد أن كل المنغصات الطائفية والنرجيسية القومية يمكنها أن تنصهر في إطار الدولة الموحدة، حيث يتقاسم فيها كل المواطنين نفس الحقوق ونفس الواجبات، سيجد فيها الجميع أن مفهوم الملكية الجماعية للسلطة، هي التي يمكن أن تجمع أكثر من أربعين طائفة مختلفة في دولة واحدة وبساكنة تتعدى المليار نسمة كما هو شأن الهند.
ترك ماكيافيل في أوراقه التي كتبها في حياته أن «هناك مرتبتان للقوة: قوة تتغذى من ضعف الشعب وأخرى تتغذى من قوته»... فلا بديل عن مفهوم السياسة كشأن عام ومفهوم السلطة كملكية جماعية، وقوة الدولة والسلطة يجب أن تتغذى من المفهوم الحقيقي للسياسة ومن قوة التعايش المشترك الذي يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يمزق.