د.حسن مشهور
تشهد الثقافة العالمية في شقها الأدبي -مرحليًا- حالة من التداخل أو البينية الأدبية التي تشكل على أثرها أنواع تعبيرية اتسمت بالتجديد والحضور. من ذلك حالة التعالق بين الشعر والقصة القصيرة، الذي تولد عنه ما يمكن لنا تسميته بالأقصوصة الشعرية. والذي في تقديري، قد يكون من ضمن البواعث لتولد هذا الجنس المحدث من التعبير الكتابي هو ما سبقه من تحديث لشكل القصة القصيرة والذي نتج عنه ما سُمي بالقصة القصيرة جدًا والتي بدورها مكنت لحالة البينية الشعرية القصصية في أن تتشكل وأن تتقولب على شاكلة ما سُمي بالأقصوصة الشعرية.
إلا أن هذه التحديث العالمي الذي قد أضحى يمثِّل عمومية كتابية تتسم بالشيوع في أغلب بلدان العالم، لم يستجب له كتابنا في الساحة الثقافية السعودية، وارتضوا أن يبقوا حكواتيين وأبعد ما يكون عن القصة القصيرة الجادة في بنيتها وتشكيلها الفعليين.
فعند تأمل واقع القصة القصيرة في شكلانيتها الحاضرة في الثقافة السعودية، وبمعزل عن أي تداخل مع أي جنس أدبي آخر، فسندرك بأنها تشهد حالة من الاهتمام على صعيد الكتابة والقراءة والحضور. إلا أن العديد من المهتمين بالكتابة في هذا النوع الأدبي بحالة إلى المزيد من التثقيف بشأنه قبل الولوج إلى عالمه ومحاولة الكتابة فيه.
فالقصة القصيرة التي يميل العديد من النقاد إلى تعريفها بأنها نص سردي قصير يتناول حدثًا أو موقفًا معينًا يهدف إلى إثارة مشاعر القارئ أو تحفيزه على التفكير، والتي تختلف في بنيتها عن الرواية في طولها وتركيزها على عنصر واحد أو عدد محدود من الشخصيات والأحداث، هي في حقيقتها فن السهل الممتنع.
بعبارة أخرى قد يرى البعض بأنه قادر على كتابة القصة في أي وقت يشاء وبخصوص أي مضمون حدثي. إلا أن هذه الممارسة التي أسميها بالحكواتية، لا يمكن بأي حال أن ترقى لفن القصة القصيرة. وذلك لكون الإمتاع والتسلية لا يمكن أن يكونا من ضمن الأهداف الرئيسة لفن القصة القصيرة.
فالقصة باعتبارها ضرباً من الفن العالمي لها خصائصها التي تميزها عن أي عبث كتابي آخر تحت مسمى فن القصة. فالقصة القصيرة تتميز في بنيتها وتشكيلها بالتركيز على الفكرة، بعبارة أخرى إنها تحوي فكرة أو رسالة واضحة ومحددة، بالإضافة لمحدودية الكركتر (الشخصية)، فهي عادة ما تركز على شخصية أو اثنتين فقط، على عكس ما تذهب إليه فنون كتابية أخرى كالرواية أو المسرحية.
هذا إلى جانب تركيزها على حبكة قصصية تحوي بداية، ووسط، ونهاية واضحة، تتجاور مع حدث محوري يغير مجرى القصة، ومجمل ذلك ينهض على سرد موجز يركز على جوهر الحدث أو الفكرة دون تفصيلات مطولة، في لغة بسيطة تصل إلى قلب المتلقي (القارئ) مباشرة.
ولقد كنت قبل فترة أعمل على دراسة نقدية جديدة تتناول نشأة وتطور هذا الجنس الأدبي في المملكة العربية السعودية، حيث كدت أتماهى مع الرأي الذي ذهب إلى أن ظروف نشأة فن القصة لها ارتباطها بالتحولات الاجتماعية والثقافية التي كان ولا يزال يشهدها الداخل السعودي، بالإضافة للاستفادة من ظروف تطور الصحافة والتعليم والتغيّرات الحضارية في المجتمع السعودي،
حيث وجدت بأن العديد من الأدبيات تشير إلى أن نشأة فن القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية قد كانت بداياتها في القرن العشرين، وتحديدًا مع تأسيس الدولة السعودية الحديثة. بحيث قد ظهرت أولى المحاولات القصصية على شاكلة مقالات قصصية أو نصوص اجتماعية نقدية، مثل نصوص «الزواج الإجباري» لمحمد حسن عواد وكتابات عبدالوهاب آشي التي حملت اسم «على ملعب الحوادث» والتي نشرت في «أدب الحجاز» و»خواطر مصرحة»، خلال الفترة الزمنية الممتدة بين عامي 1926-1927م.
وبأنه مع صدور صحيفة «صوت الحجاز» في العام 1932م ومجلة «المنهل» بعد ذلك بخمسة أعوام، فإن فن القصة القصيرة قد ازداد انتشاره خاصة مع تخصيص هذه الصحف والمجلات أبوابًا لهذا الضرب من الكتابة الفنية، وهذا الأمر قد ساعد على انتشارها ومن ثم تطورها وتوجه العديد من الأدباء السعوديين للكتابة فيها.
كما وجدت أن هناك من المؤرِّخين المهتمين بالتتابعية التاريخية للأدب السعودي، من قام بتقديم تقسيمة ثلاثية لنشأة وتطور فن القصة القصيرة، تبدأ أولى مرحلها من العام 1930م إلى العام 1960م، في حين تتمظهر المرحلة الثانية خلال الفترة الممتدة بين عامي 1961-1980م، ليلي ذلك المرحلة الثالثة والأخيرة التي تتمثّل وجوديتها في العام 1981م- وإلى وقتنا الراهن، حيث توصف القصة القصيرة في هذه المرحلة باتسامها بالإيجاز الشديد والانفتاح على التجريب، وهو ما عزَّز من حضوريتها الثقافية وزادها ثقلاً معرفيًا وأدبيًا.
حقيقةً، إن هذه السردية التاريخية لتشكل وظهور فن القصة القصيرة في الساحة الثقافية السعودية، يمكن لي وصفها في أحد مظاهرها بأنها حكاية أخرى وليست قصة. بعبارة أخرى إن إعادة دراسة تاريخانية القصة القصيرة في الأدب السعودي بحاجة إلى إعادة تأمل وإن تطلب الأمر إلى إعادة كتابة، إلى جانب أمر آخر يتمثَّل في قيام هيئة الأدب والنشر والترجمة بإنشاء أكاديمية على غرار أكاديميات عالمية أمثال «ريدسي» و»رايترز» تدرب الأجيال القادمة من الجنسين على فن كتابة القصة القصيرة وليس فن ارتجالها كما هو مشاهد حاليًا من قبل العديد من الأفراد الذين يصفون أنفسهم بكتاب قصة قصيرة، وذلك كي يتلاشى من مشهدنا الأدبي الحاضر الحكائون ليحل عوضًا عنهم القُصاص.