حامد أحمد الشريف
إن أسلوب التشظي الذي برع فيه «كونديرا» وميز هذا العمل لم يقتصر على الحكايات الشذرية فقط، بل شمل أيضًا الفهم المستقى منها، ولقد تكرر ذلك كثيرًا حتى أصبح نهجًا وأسلوبًا سرديًا دأبت عليه الرواية ولم يأتِ عرضًا، وأعني بذلك أن الكاتب تعمد العودة للزج بفلسفاته ورؤيته وتحليله للمشاهد البسيطة التي صنع منها فسيفساء هذا العمل، والحديث عنها من زوايا متعددة، وبشكل متنامٍ، وصولًا للفكرة التي يرمي إليها. وكان مقنعًا في ربط رؤاه الفلسفية المختلفة بأحداث أخرى، وبمشاهد تستدعي العودة للحديث عنها؛ كحديث «تيريزا» وغيرتها وامتعاضها من خيانات «توماس» الجنسية التي أشتمتها في شعر رأسه، وقد علقت به بعض روائح انبأتها بخيانته تلك، فهذا المشهد تم التطرق إليه عدة مرات متتالية بداية من كونه حديث نفس يتردد داخلها، إلى أن أصبح حوارًا صريحًا بينهما في ص238 عندما رضخت لضغوطه وأخبرته بما يحزنها. وبالتالي استولت فلسفة هذا المشهد على مساحة كبيرة من السرد وإن لم تكن متصلة إذ إنها بقيت تغيب وتحضر حتى نضجت واكتملت، والجميل أن العودة للحديث عنه في كل مرة؛ يحمل أبعادًا فهمية جديدة، واستشهادات مختلفة، ويأتي في سياق منطقي جدًا ومقنع، ما يجعلنا نرى العمل وكأنه قطعة قماش منسوجة ترى بالعين المجردة قطعة موحدة لا يتخللها أي فراغ، بينما تظهر تحت المجهر عبارة عن خيوط دقيقة من المشاهد والمعاني المستقاة منها، تتعالق وتتشابك بطريقة متقنة تكاد معها تنعدم الفراغات.
إن هذا التشظي المرتبط بفلسفة المواقف، وامتداده على مساحة سردية كبيرة؛ يمكن الوقوف عليه في كثير من مفاصل العمل، والشواهد عليه أكبر بكثير من حصرها، كاستفاضة الراوي العليم في حديثه المتوالي عن المقال الذي نشره «توماس» وتهكم فيه من الروس، ومضى معنا بطول الرواية من وقت بداية الحديث عنه. وجدنا الراوي العليم يجزئه لمشاهد صغيرة، ويعود للحديث عنها بشكل مختلف، ويتناولها من زوايا متعددة تحمل في كل مرة عمقًا مختلفًا، كحديثه غير المباشر مع رجل البوليس الذي حاول استدراجه لذكر اسم الشخص الذي استلم المقال وقام بالتعديل عليه، وتفطنه لهذا الأمر وإخفائه الاسم عنه، وإتيانه بأوصاف كاذبة من بنات خياله ظللها بها، والمضحك أنها تطابقت مع أوصاف أحد الصحفيين الذين يراقبونهم وظنوا أنه وشى به، هذا الموقف كاد ينقطع ذكره حتى وجدَ الصحفي أمامه في زيارته لمحرقة الجثث عند حضوره تأبين ودفن عالم أحياء شهير ص232، وقتها رأى الرجل الذي اخترع أوصافه واقفًا أمامه، ودار حديث بينهما، واتضح ارتباطه أيضًا بفسيفساء السرد، والنسيج الحكائي، بطريقة غاية في الجمال والإبداع.
الآن دعونا نترك كل هذا الثقل الذي أوجدته الفلسفات والأفكار؛ المضمخة داخل المشاهد المجزأة المسرودة، ونذهب باتجاه الخفة التي مثلت الوجه الأخر لهذه الرواية، ونالت نصيبها هي الأخرى من التشظي والتناول المتتابع المتدرج المرتبط بالأحداث، لنقول إن هذا العمل الإبداعي جمع النقيضين (الخفة والثقل)، وترك لنا التنقل بينهما حسب مقتضيات السرد، وتماهيًا مع فهمنا الحقيقي للمشاهد، وسبرنا لأغوارها وتحديد وزنها، فكان الإحساس بالخفة؛ لا يقل أهمية عن الشعور بالثقل، وامتزج الاثنان ليصنعا لنا القيمة الحقيقية لهذه السردية.
هذه الخفة -كما هو واضح- بدأت من العنوان «كائن لا تحتمل خفته» وتمددت كثيرًا داخل النص السردي لتحيلنا إلى قيمة الإنسان وثقله الحقيقي؛ المرتبط -فيما يبدو- بقراراته الحاسمة، والصائبة، والمستقلة، أو التي يظنها كذلك -وكنا قد نوهنا عنها في الجزء السابق- فالإنسان غالبًا ما يكون خفيفًا إذا نظرنا إليه من هذه الزاوية في ظل خبراته الحياتية الضئيلة جدًا مقارنة بأسرار الكون الهائلة التي لم يصله منها غير النزر اليسير، وكذلك خضوعه المطلق لغرائزه؛ مهما بلغ علمه ومكانته وثقافته وتحضره، واستخدامه كل ذلك فقط لإخفائها.
كان خيار «كونديرا» أن التجارب الإنسانية ثقيلة في معانيها والأفكار التي تطرحها، بينما مثل الإنسان جانب الخفة حيث لم يستفد من هذه الفلسفات والمعاني المستقاة، ولم يستثنِ من ذلك أيًا من أبطال هذا العمل حتى شخصياته الثانوية، وجعلها لازمة تلتصق بكل البشر، لذلك قرر أنهم بحاجة لحيوات أخرى يتخلصون فيها من هذه الخفة، ويسمح فيها لأرواحهم النافقة بالتنقل بين الكواكب وخوض غمار الحياة مجددًا، وقد صرح بذلك في قوله ص226: «نحن أيضًا سكان هذه الأرض (أي الكوكب رقم واحد، كوكب عدم الخبرة) ليس في إمكاننا طبعًا إلا أن نكون فكرة غامضة جدًا عمّا يحلّ بالإنسان على الكواكب الأخرى، تُرى أيكون أكثر ثقلًا؟ هل الكمال في متناول يده؟ وهل يستطيع الوصول إليه بالتكرار؟» انتهى كلامه. هذا المعنى يحيلنا للنص القرآني الذي يُظهر بالفعل هذه الخفة التي يتصف بها الإنسان، ومحاولته تكرار التجربة للتخلص منها بعد اكتشافها في يوم الحساب، قال تعالى في سورة السجدة الآية 12: «وَلَوْ تَرَى إِذِ لْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ» والمعنى المراد هنا أنهم يطلبون العودة للحياة مرة أخرى، والخروج من النار التي أُدخِلوها بسبب تلك القراءات والقرارات الخاطئة؛ التي نجمت عنها اهتماماتهم التافهة، وسقوطهم المريع؛ ومثلت خفتهم، وعدم خبرتهم التي ذكرها «كونديرا»، وإن عوقبوا بسبب تفريطهم وعدم تخلصهم من تلك الخفة، باتباعهم ما أوحي على محمد صلى الله عليه وسلم والنبيين من قبله، أي أن الخفة التي فلسفها لنا «ميلان»؛ ترتبط بحالة التوهان التي يعيشها الإنسان معتمدًا على نفسه في رسم حياته من بدايتها حتى نهايتها، ووضع الأنظمة والقوانين التي يحتكم إليها، وبالتالي وقوعه في مغبة سوء القرارات والنتائج التي غالبًا لا ينجو منها.
هذه الفكرة المتجذرة في العمل، والمتعلقة بالخفة؛ عاد «كونديرا» للحديث عنها مرة أخرى في ص245 مع بداية القسم السادس من خلال حكاية موت ابن الإمبراطور الروسي «ستالين» في معتقل الألمان، وتمثلت التفاهة في خلافهم حول البراز ـ أجلكم الله ـ حين اتهم بعدم تنظيفه المرحاض بعد استخدامه، وتطور هذا الخلاف ليصل إلى موته على الأسلاك الشائكة المكهربة التي كانت تحمي المعتقل، مما يظهر سببًا تافهًا جدًا للموت، لا يعقل أن ينهي حياة إنسان بهذه القيمة، وفي ذلك بالطبع إشارة للخفة المتناهية التي يمثلها الإنسان، وهي الصورة التي ربطها المؤلف بالصراع الذي أشعل الحرب بين هتلر وحلفائه من جهة، والروس وحلفائهم من جهة أخرى، عندما حضرت المبررات التافهة للحرب، فالروس والألمان وحلفائهما قررا كليهما التمدد الجغرافي باتجاه الآخر، والقتال تحقيقًا لهذه الرغبة المتضادة، وضاع في سبيل ذلك عدد لا يستهان به من الأرواح البريئة، وهو ما يعيدنا للخفة التي اعتمدت هذه السردية لإيصالها، وأصبحت أكثر حضورًا في حديث الراوي العليم الذي بدا أكثر إفصاحًا عند قربه من النهاية، وهو الخيار المتوقع، فتسليم قطعة القماش بعد اكتمال نسجها يسبقه عادة التأكد من جودة النسج وغياب أي خيوط نافرة أو فجوات ظاهرة قد تفسدها، وأظنه نجح في ذلك، فالمعاني المضمرة التي استمتعنا بها في البداية؛ طفت على السطح وكافأتنا على اشتغالاتنا الفهمية السابقة، ما يشير إلى الرسالة العظيمة التي يحملها النص وأريد لها أن تصل، ولكن، بالطريقة التي لا تقلل من قيمة السرد في الاتجاهين، أي التوسط بين الصعوبة والسهولة.
هذه الخفة التي نتحدث عنها جسدتها عشيقة «توماس» الأخرى المدعوة «سابينا»، أوقفتنا برفقة عشيقها الآخر «فرانز» على معنى التفاهة والخفة من زاويتها، وسرد لنا «العليم» مزيدًا من الحكايات المنفصلة التي تجتمع هي الأخرى في النسيج المتوحد الذي تمثله -كما أسلفنا- خفة؛ تصور بدقة الحالة التي تغلب على الانسان، وكما يلاحظ هنا أن النماذج الإنسانية كانت متباينة ومختلفة، كـ «افرانز» الذي حمل قيمة علمية فهو أستاذ دكتور في الجامعة، وكذلك «سابينا» الفنانة التشكيلية المبدعة، و»تيريزا» الفنانة «الفوتوغرافية» والصحفية المتمكنة، و»توماس» الطبيب الجراح الحاذق، ومثل هؤلاء القمة الشكلية المجتمعية، بينما أتت والدة «تيريزا» وصويحباتها بهيئة بسيطة أقرب للجهل، ومثلوا القاع المجتمعي الشكلي، جمع بين كل هؤلاء خفتهم وحاجتهم لحيوات أخرى حتى يصبحوا أكثر ثقلًا، ما يعني أن القرارات الإنسانية كلها في نظر «كونديرا» لا معنى لها رغم استقلاليتها وإن تباينت فيما بينها في مقدار خفتها.
وكان حديثه عن «الكيتش» الذي يرمز للفنون التافهة أو المقلدة حسب المصطلحات الألمانية الدارجة، والمشتق من مفردة «Kitschen» التي تعني جمع القمامة من الشارع؛ عميقًا جدًا، فليس هناك تفاهة أو لنقل خفة أكثر من ذلك وهي أن تُرى من خلال القمامة التي تجمعها وتقدمها. استخدم هذا المصطلح لوصف حالة المجتمع التشيكي الذي تشكل بعد الاحتلال السوفيتي، وتحدث عنه الراوي العليم؛ والصقه بالفنانين التشيكيين والأدباء والمثقفين الذين هربوا من هذه التفاهة، وعبر عنه صراحة من خلال «سبينا» في قوله ص256: «وها هي الآن تتابع النضال. وكانت الجملة الأخيرة من النص تقول: (من خلال لوحاتها تقاتل من أجل الحرية).
اعترضَت ولكنّ أحدًا لم يكن يفهمها.
كيف، أليس صحيحًا أن الشيوعية تضطهد الفن الحديث؟
أجابت بغضب: (عدوي ليس الشيوعية، بل هو الكيتش!)» انتهى حديثه.
وهكذا نجد أن تشظي الفكرة لا يزال ملازمًا للسرد، ولا يزال يتتابع ويتنقل معنا ويرتبط بالأحداث، فهذه الفكرة التي تحدث عنها، وردت في سياق إقامة معرض لـ«سابينا» في المانيا تحت مظلة أحد الأحزاب السي اسية، وتطرق لها الراوي قبل ذلك، بل كانت العنوان الأبرز للقسم السادس، واستفاض كثيرًا في الحديث عنها بالطريقة ذاتها التي اتبعها في كل الكتاب، حيث تتحول الأفكار والفلسفات والمشاهد البسيطة بين مداد قلمه وفكره إلى ثورة حقيقية؛ قد لا يُنتبه لها، كونها لا تخرج عن السياقات العامة، والمحاور المتنوعة، بمستوياتها القرائية المتعددة، والمختلفة في حجمها، وأهميتها، وقد مثلت ثقل المشاهد الحياتية، والصراعات، في مقابل خفة الإنسان.
وكانت «سابينا» قد جسدت بالفعل فكرة الخفة نفسها في رحلاتها، حيث انتقلت بسهولة بين عدة دول؛ كالتشيك، وسويسرا، وألمانيا، وأمريكا، وتنقلت أيضًا بين عدد من الرجال، بخفة لا مثيل لها، حيث «توماس» و»فرانز» وأخيرًا السيناتور الأمريكي الذي رافقها بعد قدومها إلى أمريكا… ومرة أخرى نجد الخفة التي يجتهد المؤلف كثيرًا في إحضارها، وعدم تغييبها عن المشاهد النسيجية الثقيلة التي شكلت حكايته الأم، تطل علينا برأسها، وفي هذه المرة حضرت برفقة علية القوم والطبقة الأكثر ثقلًا في كل المجتمعات، وهي طبقة المتعلمين، والمثقفين، وأصحاب الفكر، ولقد أمعن في إظهار القيم المزيفة التي يختبئ خلفها مثل هؤلاء، عندما جمعهم من أجل قضية تمثل ثقلًا أخلاقيًا وسياسيًا كبيرًا جدًا ظاهريًا، أعني بذلك اجتماع صفوة المجتمع الفرنسي للوقوف مع كمبوديا، ودعمها في صراعها الدموي ضد الشيوعيين، في وقت ألمح إلى فشلهم المروع في هذه المهمة، وتجسيدهم للخفة الإنسانية، وظهور صراعاتهم السخيفة؛ في محفل لم يكن يحتمل ذلك.
نقل لنا هذه الفلسفة في صورة حكاية بسيطة، ومشهد ثانوي، أوصل هذه الرسالة التي يريدها، ووصف لنا تصدر الأمريكان المشهد، ومحاولة الفرنسيين استعادة زعامتهم الاستعمارية القديمة؛ من خلال الاعتراض على استخدام اللغة الإنجليزية، وتجاهل اللغة الفرنسية، في مشهد من الكوميديا السوداء، وصفه المؤلف بطريقة غاية في الجمال، يقول ص262: «وبما أن الأمر كان يقتضي بأن يجري الاستماع إلى كل جملة بالإنجليزية، ثم بالفرنسية فإن الاجتماع دام وقتًا مضاعفًا إن لم يكن أكثر من مضاعف لأن الفرنسيين بأجمعهم كانوا يتقنون الانجليزية مما يضطرهم لمقاطعة المترجم وتصحيح أخطائه والتجادل معه في شأن كل كلمة». انتهى كلامه. وهكذا نجد أن الهدف لم يكن التواصل الجيد وفهم ما يقال، بقدر ما كان البحث عن الزعامة، والتنافس حول السلطة التي يفترض ألا يكون لها مكانٌ، في ظل الحالة الإنسانية الملحة التي اجتمعوا من أجلها، وهنا ظهرت الخفة في سياق يكاد يكون منفصلًا كليًا؛ لولا براعة المؤلف في ربطه بأحد أبطال الحكاية الأم وهو «فرانز»، الذي دُفع لهذا الموقف؛ خشية أن تسمع حبيبته السابقة «سابينا» بهذا الاجتماع الإنساني، ولا تراه من بينهم. ما يعني أن الخفة استحوذت على كل القرارات الإنسانية الموصوفة باحترافية وإبداع قل نظيره؛ من دون المساس بالنسيج الحكائي الذي حيك ببراعة شديدة، وصعب تبعًا لذلك فصل خيوطه، أو التعرف عليها، بعد أن أصبح قطعة واحدة متماسكة ليس بالإمكان معرفة أصلها.
هذه الخفة التي نتحدث عنها حضرت في السياسة بشكل ساخر، وربما لم تعد في الوقت الحالي بحاجة لـ «كونديرا» للحديث عنها، نطالعها في ص268 في قوله: «فأوروبا قد سارت بالأمس ضد الاحتلال الأمريكي لفيتنام، واليوم تسير ضد الاحتلال الفيتنامي لكمبوديا. بالأمس تأييدًا لإسرائيل واليوم من أجل الفلسطينيين، بالأمس من أجل كوبا واليوم ضد كوبا» انتهى كلامه. وكما يرى كان وصفًا غاية في الدقة للخفة التي أصبحت تسيطر على قيادات العالم المتحضر، وأفسدت حياة شعوبهم، وبالتالي أصبح هؤلاء الزعماء بحاجة لحيوات أخرى حتى يتخلصوا منها، ويعيدوا ترتيب حياتهم وحياة شعوبهم بشكل أفضل، وهنا لابد من التدخل والقول إننا بالنظر لما وصلنا إليه اليوم، فيمكننا تخيل هذا الكائن وقد أصبح بالونًا منفوخًا بغاز الهيليوم؛ يحتاج لكثير من الجهد، لإبقائه في نطاق سيطرتنا وعدم انطلاقه بعيدًا عنا.
ولأن الخفة مبتغاهُ من هذه السردية، فهو دائم العودة للحديث عنها، وإلصاقها بكل الحكايات الشذرية كقوله ص270: «هذه الرغبة المباغتة لفرانز تذكرنا بشيء ما، نعم، تذكرنا بابن ستالين عندما انطلق راكضًا للتعلق بالأسلاك الشائكة لأنه لم يعد في استطاعته أن يتحمل رؤية قطبي الوجود البشري يقتربان إلى درجة التلامس، إلى درجة أنه لم يعد هناك من فرق بين النبيل والحقير، بين الملاك والذبابة، بين الآلهة والبراز». انتهى كلامه. ونلاحظ هنا أن الخفة بلغت مداها عندما كادت الأقطاب السياسية المتضادة تتشابه، وهو تصوير غاية في الجمال، والدقة، ويصف بالفعل ما يحدث عند تخفيف المحاليل الملونة المختلفة بالماء، نجدها في نهاية الأمر لا تكاد تختلف، على الأقل في مظهرها الخارجي، أي أن خفة الإنسان بتخلصه من مبادئه وأخلاقياته وقيمه، وانصهاره مع رغباته وغرائزه المتصادمة والمتغيرة؛ يوصله إلى المرحلة التي تضيع فيها هويته الإنسانية تمامًا، وهو ما نشاهده الآن بشكل لم يعد بحاجة لـ «كونديرا» حتى يخبرنا به بعد أن عد من الواضحات، وهنا لابد لنا من التوقف وبيان أن الرواية كان لها قصب السبق في تعرية المجتمعات وبيان الهوة الساحقة التي وصلتها أو التي ستصلها مستقبلًا من خلال التخييل الواقعي الذي يستخدم المقاييس والمعايير الفيزيائية لاستشراف المستقبل، وتحذير البشرية من خلال حكايات قد يعتبرها بعضهم تافهة ولا يهتم بها، معتقدًا أنها مجرد تزجية للوقت يُتسلى بها، بينما هي ليست كذلك. ما يعني أن ثقل الإنسان الحقيقي ليس في معرفته وثقافته، وإنما في قدرته على قراءة الحكايات البسيطة التي يعيشها كل يوم، ورؤيتها مكبرة تحت عدسة «كونديرا» التي نقلت لنا فسيفساء العالم المتناقض الذي نعيش فيه، وبينت لنا أن التنزيل والربط بالواقع، واتخاذ القرارات الصائبة، أكثر أهمية من حفظ القوانين، والتسلح بالمعرفة المجردة.
من اللافت أيضًا في هذه السردية الرائعة؛ استخدم المؤلف أسلوب التشظية في كل مفاصلها البنيوية، وأحسن إذ قام بتوزيعها على كامل العمل، فأصبحت هناك إضافة دسمة تطلع عليها كقارئ حتى آخر حرف منها، فها نحن الآن وقد اقتربنا من خط النهاية نجد «كونديرا» يتحفنا بتقسيمات إبداعية غاية في الجمال والدقة لكائناته الخفيفة، أتت على وجوه أربعة، أشار إليها الراوي العليم في ص271 و272 وربطها بكامل أبطال الرواية، حيث وضع كلًا منهم في فئة من هذه الفئات التي تحمل مواصفات معينة تجمعهم وتوحد سلوكياتهم، وأبرزهم «فرانز» وابن توماس غير الشرعي «سيمون» اللذان قرر تسكينهما في الفئة الرابعة المخصصة للحالمين، بينما وضع «توماس» و»تيريزا» في الفئة الثالثة الوجدانية المفرطة، وهكذا وجدنا أننا نبتسم وقد أتى كل واحد منهم في الموقع الذي يتناسب فعليًا مع سلوكه، وربما ذهبنا بعيدًا في تسكين من نعرفهم في هذه الفئات.
ومشهد أخر يحمل عمقًا كبيرًا ويعد تجسيدًا للخفة التي ما فتئت ترافقنا حتى النهاية، حمل هذا المشهد البسيط قيمة حقيقية لخصت كل العمل كونه جمع بالفعل بين ثقل المعنى في مساحة مشهدية محدودة جدًا، وخفة الإنسان المتحول لكائن، يقول الراوي العليم ص281: «كانا قد باعا سيارتهما وجهازي التلفزيون والراديو ليتمكنا من شراء بيت صغير مع حديقة، من فلاح ذاهب للإقامة في المدينة» انتهى كلامه. وهنا نلاحظ ذات القيمة القرائية للمشاهد البسيطة التي نسجت منها الحكاية الأم، وهي تعيدنا لخفة الإنسان، وهشاشة قراراته، واعتمادها على منطلقات متناقضة، في مقابل ثقل المشهد؛ بما يحمله من فلسفة وفكرة عظيمة، فصاحب المدينة، باع كل ما يملك بثمن زهيد لتركها والانتقال للعيش في القرية، وصاحب القرية، باع أرضه ومسكنه وهي بالتأكيد أغلى ما يملك بثمن بخس بهدف الانتقال للمدينة، وكلاهما يعتقد أنه أقدم على الخطوة الصحيحة التي فيها نجاته.
هذا المشهد يختزل لنا الحياة الإنسانية بالفعل، ويصور لنا المقايضات العجيبة التي تديمها، فالبشر الذين تحولوا لكائنات غاية في الخفة بين دفتي هذا الكتاب؛ هم بالفعل كذلك، ولو لم يكونوا كذلك لقضي الأمر، ولزالت الحياة من وقت مبكر، فالتدافع، والتناوب، والمقايضات، المبنية في أصلها على قرارات متناقضة بالغة الخفة لمعطيات متشابهة؛ هي أساس إعمار الأرض، وبذلك فإن الإنسان غالبًا ـ كما ذكر «كونديرا» وكما ورد في القرآن الكريم ـ يحتاج لحيوات أخرى لاتخاذ القرارات الأصوب، ومعالجة أخطائه المتكررة في حال اعتمد على نفسه بالكلية. ولعل «كونديرا» لم يفطن إلى أن ذلك كله يعيدنا لأهمية الاعتماد في جل قراراتنا على الوحي الرباني الذي يقينًا يثقل الإنسان بالتكليف والمحاسبة ويلزمه بالنهج القرآني في عمارة الأرض وتنظيم تعاملاته كما ما ورد في سورة الرحمن الآية 31 عندما وصف الله سبحانه وتعالى الإنس والجن المكلفان بهذا الوصف، قال تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ». وبالتأكيد فإن ذلك لا يتعارض مع فلسفة «كونديرا» فخفة الإنسان وثقله مرتبطة بالفعل بقراراته بدليل أن المؤمن المتمسك بالتشريع الإلـهي لا يبحث عن حيوات أخرى حتى يتخلص من خفته، وإنما يجتهد للتماهي مع إنسانيته والانتصار على رغباته الجامحة وغرائزه المتفلتة استعدادًا للمحاسبة.
من المشاهد أو الحكايات البسيطة التي خضعت لعدسة «كونديرا» واحتلت مساحة لا بأس بها من السرد وثم تشريحها بالمشرط نفسه الذي جرى إعماله في كل الحكايات الشذرية التي نسجت منها الحكاية الأم؛ إصابة الكلبة «كارنينا» بالسرطان، واستيلاؤها على المشهد السردي في معظم القسم السابع الذي لم يكن اعتباطًا تسميته (ابتسامة «كارنينا») فقد استنزفت الكلبة ومعاناتها مع الورم السرطاني معظم فقرات هذا القسم، وكانت تحضر وتغيب بذات الطريقة التي اتبعها «كونديرا» أو نائبه «الرواي العليم» فيما وراء الحكايات، واستطاعت الكلبة وصديقها الخنزير «مافيستو» قيادة دفة الحكي في مستوياته المتعددة، وانطلق الفهم والربط من حكايتهم البسيطة، التي وظفت للعودة إلى كل أجزاء الحكاية الأم، وهي الصورة الواقعية جدًا التي تعيدنا لخفة الإنسان عندما تعيده الحكايات والمشاهد المتوالية إلى قراراته السيئة بعد انقضائها، وعدم قدرته العودة عنها، واكتفاؤه فقط بمعرفة حجمه الحقيقي وكمية الوزن الإنساني الذي فقده.
لقد استطاعت الكلبة «كارنينا» تبصرتنا بعدد لا يستهان به من السقطات الإنسانية التي جعلتنا نحتاج بالفعل لحيوات أخرى لمعالجة تلك الأخطاء والعودة عنها، ولعل أجمل ما قالته حكاية «كارنينا» في احتضارها قبل موتها تذكيرنا بفلسفة «ديكارت» الذي نفى وجود الروح لدى الحيوانات وقصرها على الإنسان، وتعاطى مع الحيوانات على أنها آلات بالمعنى الحرفي للآلة، والجميل أن «ميلان» لم يناقش النظرية، وإنما أتى بـ الكلبة «كارنينا» لنفيها، فهي كما يظهر في السياقات السردية تمتلك روحًا جعلتنا نتتبع حياتها بكل تفصيلاتها الإنسانية قبل مواراة جسدها تحت التراب ونحزن لفراقها ونتألم للطريقة التي أنهت تجربتها الحياتية، كان هذا المشهد البسيط ثقيلًا جدًا، دلفنا من خلاله إلى عقد مقارنة جميلة بين الحياة الإنسانية وحياة الحيوانات التي تمتاز دون غيرها بشرعية الموت الرحيم، لنعيش تلك اللحظات التي سبقت حقن «كارنينا» بحقنة الموت والمعاني الكبيرة المستقاة من هذا الموقف الجلل.
هذه النهاية الرحيمة وظفت بإبداع لتعرية شخصية «تيرزا» المضطربة، حيث ظهر أنها لم تعد تثق في قرارتها وانتابتها عقدة الشك وهي تتردد كثيرًا في التسليم بموت «كارنينا» وبدا لها سماع صوت أنفاسها مرة أخرى رغم موتها. وظف هذا المشهد البسيط في استعراض رحلة «تيريزا» كاملة مع «توماس» التي قامت في أساسها على الشك في محبته لها، واختبارها الدائم لهذا الشك، ومحاولة دفع «توماس» لقرارات تختبر من خلالها هذه المحبة، فهل هناك قرارات قاتلة أكثر من ذلك؛ عندما تكتشف في لحظة صدق مع النفس أنها سبب تدمير هذا الإنسان، وإنزاله من مرتبة طبيب جراح إلى سائق شاحنة في إحدى القرى النائية، وقبل ذلك منظف زجاج لواجهات المحلات التجارية؟!
كانت رحلة مليئة بالقرارات الخاطئة من كليهما رغم المحبة الحقيقية التي جمعتهما، لكنها ظلت موضع شك من كليهما حتى بلوغ النهاية المأساوية، وإسدال الستار على مشاهدها المتوالية، التي ما فتئت تعيدنا إلى موضوع الخفة والثقل…
وبعدُ فإن هذا العمل لـ «ميلان كونديرا» يعد رحلة فكرية، وفلسفية في أعماق النفس البشرية يمكننا من خلاله أن نعيش حيوات أخرى قد تثقلنا، وتزيد من إنسانيتنا، دون الحاجة للتنقل بين الكواكب، أو العودة للحياة بعد الممات؛ ومراجعة قراراتنا، ويكفي لتحقيق ذلك استخدام العدسة المكبرة التي أهدانا إياها «كونديرا» لنرى ما وراء المشاهد البسيطة التي ننسجها بأيدينا ونثقلها فتظهر خفتنا المتناهية.