عبدالله العولقي
قبل الحديث عنْ إبداعيّة الشاعر وفنّه لا بدّ من الحديث عن تقاطع عاملي الزمن والمكان في سيرته الشخصية، ففي هذا التقاطع تتجلى أحياناً تفسيرات هذه الإبداعيّة كما يرى أصحاب المدرسة التاريخية في النقد وعلى رأسهم الدكتور سانت بيف وتلميذه هايبوليت تين، وشاعرنا اليوم هو أبوالفرج محمد بن أحمد الغسّاني والذي اشتهر في زمنه بلقبه الذي غُلب عليه (الوأواء الدمشقي) حيث نشأ وتربّى في دمشقِ الشام، لقدْ عاشَ الشاعر في زمنِ الاضطرابِ السياسيِ للمدينة، فقدْ كانتْ دمشقُ حينها مُتنازَعةً سياسياً بين الإخشيديين وعاصمتهم فسطاط مصر وبين الحمدانيين وعاصمتهم حلب الشام، ويبدو أنّ الشاعر قد عاش في بيئة دينيّة تميل إلى التشيع حيث نلمح ذلك من إحجامه عن مدح الإخشيديين وتهافته إلى مدحِ الحمدانيين!.
عاشَ الشاعرُ فقيراً بائساً يمتهنُ بيعَ البطيخِ في سوق دمشق، وهناك أُطلق الناسُ عليه لقب (الوأواء) ربّما للثغةٍ معيّنةٍ في لسانه، كان الشبابُ والمراهقون حينها يحتشدون أمام خانه ليس من أجل شراء الفاكهة وإنما من أجل سماعِ أشعاره الرقيقةِ في الغزلِ وأبياتهِ في عذابِ الحبِّ وألمِ الحرمانِ والتي طارتْ بها الركبان في زمانه، حيثُ كان صاحُبنا بارعاً جداً في وصْف الأنثى وجمالِها ورقّتِها بصورةٍ إبداعيّةٍ مبتكرةٍ:
وأمطرتْ لؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ
ورْداً وعضّتْ على العُنّاب بالبَرَدِ
ولو تأمّلنا ديوانَه وجدناه يمتلأُ بالأبياتِ المفردةِ اليتيمةِ وبالبيتين والثلاثة، فلمْ يكنْ الوأواء الدمشقي من أصحاب الَّنفَس الطويل في الشعر، ولعلّ هذا يعودُ إلى طبيعة حالته الماديّة والنفسيّة التي كان يعيشُها في دمشق، فالظروف القاهرة لم تكنْ لتساعده على نظمِ المطوّلات من الشعر إلا ما ندرْ، وقصائدُه المطوّلات من جيّدِ شعرِه، فعندما سنحتْ له الظروفُ أنْ يلتقي بالشريف العقيقي في قصرِه الباذخِ في دمشق، انطلق لسانُه بقصيدةٍ طويلةٍ من بحر البسيط يعدُّها بعض النقاد من روائع المدائح في تاريخ الشعر العربي كله:
ثَنَيْتُهُ وَعِنَانُ الشَّوْقِ يَجْمَحُ بِي
إِلَى الَّذي رَاحَتَاهُ تُنْبِتُ النِّعَمَا
إِلى ابْنِ مَنْ فُتِحَتْ أُمُّ الكِتَابِ بِهِ
وَبِالصَّلاةِ عَلَى آبائِهِ خُتِما
لقدْ ضاق الوأواءُ ذرعاً بالفقر والعوز، فقرّر أنْ يستفيدَ من موهبته الشعريّة في مدح الأعيان حتى ينالَ شيئاً من أموالهم، فكانت الحاجة تستدعي أنْ ينطلقَ لسانه بالمطولّات ويترك نظم البيت والبيتين من الشعر!
كان للوأْواء ذاكرةٌ قوية وحافظةٍ شعريةٍ عجيبةٍ أدهشتْ الناسَ من حولِه، كانَ يحفظُ كلّ ما تسمعُه أذناه من أشعارٍ وقصائدَ العرب، فكان لهذه الذاكرة أثرٌ مباشرٌ في استدعاءِ قريحته لقولِ الشعر، وهنا يأتي السؤال عن الشخصية المثاليّة التي كانت تقف خلف شاعريته، أو بعبارةٍ أخرى من هو مثلُه الأعلى في الشعر؟، إنّ نظرةً تأمليّةً فاحصةً لمنهجيةِ وأسلوب الوأواء في قول الشعر تجدْنا نذهبُ إلى ديوانِ أمير الغزل العربي في زمانه عمر بن أبي ربيعة، وقد يتساءلُ القارئُ الكريمُ عن القاسمِ المشتركِ بين هذين الشاعرين العاشقين؟، فتأتي الإجابة سريعاً بأنه الخيالُ الخصبُ الفسيحُ، هذا الخيالُ الذي يمتزجُ فيه جنس الرواية داخل جنسِ القصيدة، وداخل هذا التزاوج الفني يحبكُ الشاعرُ المبدعُ بخيالِه الخصبِ عقدة النص وشخوصه وأحداثه وزمانه ومكانه بكل إبداعيةٍ مُدْهشة!، وقدْ تحدّثنا في مقالٍ سابقٍ عن أسبقية عمر بن أبي ربيعة في تأسيس المدرسة الوجدانية أو الرومانسية في الأدب العالمي، فهذا النوع من الشعراء الوجدانيين يُشْبهون الروائيين إلى حدٍ كبير، فلمْ يكن لابن أبي ربيعة امرأةً حسيةً يُطاردها حيثما ارتحلت مثل قيس العامري، أوْ يُعرفُ تاريخياً بولعه بسيدةٍ بعينها مثل كُثيّر عزة أو جميل بُثينة، وإنما هنّ سيداتٍ يبتكرْهنّ من نسج الخيال، حيث يُضفي الشاعر على وصفهنّ صوراً من بذخ الحُسن وترف الجمال، فيرسمهنّ في خياله الخصب ثم ينسجُ حولهن الحكايات الشيقة بأسلوبه الذي يجمع بين تقنية الشعر والرواية!، ولذا نجدُ ذلك الأسلوب يتضمّن سرديّة ثنائية القول، وأعني: أسلوب الفعل وردّ الفعل، ومن ذلك القول/الجواب أو قالت/قلت، فهكذا كُنّ نساءُ بن أبي ربيعة في ديوانه:
قالتْ: ورأسُ أبي ونعمة والدي
لأُنبّهنّ الحيّ إنْ لمْ تخْرجِ
فخرجتُ خوفَ يمينها، فتبسّمت
فعلمتُ أنّ يمينها لمْ تُحْرجِ
وذاتِ الأمرِ يُقالُ عن شاعرنا الوأواء الدمشقي كما سنرى في هذا المقال.
لمْ ينلْ الوأواءُ الدمشقيُّ حظَه من الشهرةِ في زمانه، ربّما لأنه عاشَ في زمنِ المتنبي تلك الشمسُ الساطعةُ التي غطت بشعاعِها المنيرِ على بقيّة كواكبِ الشعرِ في زمنِه كأبي فراسِ الحمداني وابن نباته وكشاجم والسري الرفاء والصنوبري وأبي بكر أبي عثمان والنامي وأبي الفرج الببغاء والزاهي والناشئ وأبي الفرج الأصفهاني وغيرهم، ومن الجدير بالذكر القول إنّ كل هؤلاء الشعراء بمنْ فيهم الوأواء قد اجتمعوا سويةً في بلاط أمير الشعر والسياسة في زمنه وحاكمِ حلب الأمير سيف الدولة الحمداني!
وإذا عُدنا إلى شاعرية الوأواء الدمشقي نقول إنه في أدبنا العربي العظيم هناك قصيدة مشهورة جداً تغنّى بها المطربون والمطربات في كلّ زمانٍ ومكانٍ، وهي من كلمات شاعرنا الوأواء الدمشقي وأعني رائعته:
نالتْ على يدها ما لمْ تنلْه يدي
نقشاً على معصمٍ أوهتْ به جلدي
هذه القصيدة التي تُنسب خطأ للخليفة الأموي يزيد بن معاوية، وحقيقتها من شعر الوأواء الدمشقي كما يرى أغلب الباحثين والمدققين في الأدب العربي، وفي هذه القصيدة يظهرُ أثرُ عمر بن أبي ربيعة جليّاً على ثقافة وفِكْر الوأواء الدمشقي وتأثّره به، فالتقنية الفنيّة التي استعملها الوأواء هي نفس التقنية التي ابتدعها وابتكرها عمر بن أبي ربيعة، وهي التقنية الروائية الوجدانية التي تستند إلى اختراع الشخصيات والحبكة الروائية بين اثنين عاشقين داخل النظام الشعري، حيث تتجلّى هذه التقنية عبر حواريّة فنيّة من الفعل وردّ الفعل أو القول والرد:
فقلت: استغفر الرحمن من زللٍ
إنّ المحب قليل الصبر والجلدِ
قالتْ: وقدْ فتكتْ فينا لواحظُها
ما إنْ أرى لقتيلِ الحب من قودِ
وحول فكرة البيت الأخير وأعني لغة العيون في الشعر العربي، نجد الشاعر الجاهلي امرئ القيس يستنكفُ أنْ تهزمه عينُ الأنثى، فللذكورة هيبتها الفوقية حتى في شأن العشق والحب:
رمتني بعيني جؤذرٍ وَرَميتُها
بعينيْ قطاميٍّ على مرقبٍ عالِ
فثقافة الحبِّ في العصر الجاهلي تحفظ للذكورة هيبتها ووقارها أمام نظرات الأنثى الساحرة مهما بلغ حال العاشق من الضعف!، بيد أنّ هذه الثقافة بدأت بالتغيّر من العصر الأموي عند جرير مثلاً:
إنّ العُيونَ التي في طرفِها حَوَرٌ
قتلْنَنَا ثمّ لمْ يُحْيِينَ قتْلانا
يصْرعنَ ذا اللبّ حتّى لا حراكَ بهِ
وهنّ أضعفُ خلقِ اللهِ إنسانا
حتى بلغتْ في تطورّها إلى حدِّ التناقضِ التامِ مع نظرة امرئ القيس عند شُعراء العصر العباسي الثاني، وعلى رأسهم شاعرنا الكبير الوأواء الدمشقي، حيث أصبحتْ ثقافة الشعراء العشاق تستندُ إلى معاني الاستمتاع بعذابِ الحبِّ والتنازلِ عن وقار الذكورة!، وبالتالي تحوّلت معاني الحرمان والهجر إلى لذّة ومتعة عند العشاق والمحبين، فنجد الوأواءَ مثلاً يُردّدُ معنىً لطيفاً تجاه ثنائية الظبي/الأسد، وكيف ينتصرُ الضعف على القوة على غير العادة، فالمشهدُ هنا يتجلّى من خلال العيون السّاحرة الآسرة التي يمتلكها الضعيفُ فتفتكُ بفؤادِ القويِ وتهزمه:
قدْ خلّفتني طريحاً وهي قائلةٌ
تأمّلوا كيفَ فعْلَ الظبيِ بالأسدِ
هذا المعنى يُقال إنّه من إبداع الوأواء، وقيل إنّه قديمٌ ولكنّ الوأواء أعطاهُ فضاءً بديعاً في عالم الشعر حتى قلّده جميع الشعراء من بعده، فأصبح من المعاني المُستهلكة كقول معاصره أبي فراس الحمداني:
كيفَ اتقاءُ جآذرٍ يرميننا
بظبى الصوارمِ من عُيون ظباءِ؟
وفي العصر الحديث يقول الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري:
لا أتّقي خزراتِ الذئبِ ترصدني
وأتقي نظرات الأدعج الشدن
كما تتخذُ هذه الثنائيّة القوة/الضعف عندَ الوأواءِ أشكالاً متعددة كالعزة/الذل:
لهُ عِزَّةُ الوالي عَلَيَّ وَتِيهُهُ
وَلي ذِلَّةُ المَعْزولِ عِنْدَ لِقائِهِ
وإذا عدْنا إلى أشهر وربّما أوّل مطوّلة ينظمها في حياته وأعني قصيدته التي مدح بها الشريف العقيقي مختبراً حظوظه في المدح والتي يبتدأها بالغزل:
تظلّم الوردُ من خدّيه إذ ظلما
وعلّم السقم من أجفانه السّقما
ولمْ أردْ بلحاظي ماء ناظرِه
إلا سقى ناظري من ريّه بظما
إذنْ ما هو الأمل المفقود الذي يبحث عنه الوأواء الدمشقي؟، فلو بحثنا عن مُعادل ثقافي معنوي لسيرة الوأواء لوجدناه يرتكز في ثنائية الفقر/الطموح ، بمعنى أنّ الشاعر نشأ وعاش في بيئةٍ فقيرةٍ، وكان يطمحُ من موهبة الشعر أنْ تُحقق له طموحه وتُحدث له تغيّراً نوعيّاً في حياته، وتنقله من عالمِ البُؤسِ إلى عالمِ الثراء، فالفقرُ الذي كان ملازماً له في الألمِ والحاجةِ نلتمسُه جلياً من مهنته المتواضعة كبائعٍ للبطيخ، وقدْ قرأتُ لأحد الباحثين في سيرته أنه لمْ يتزوّج بسبب فقره!، وهنا نجدُ أنّ فكرةَ طموحِه الفطري نحو إيجاد الولد أو الإبن الوريث للأسرة، تنشأْ داخل شعره بالبحث عن معنى الخصوبة، حيث يتحوّل هذا البحث في اللاوعي إلى عمليّة تكثيف لمعنى (الماء) وهو أصل الخصوبة، وتكراره بإبداعيّة مميّزة داخل شعره، وبصورةٍ عميقةٍ جداً لها دلالةٌ واسعةٌ في ذلك الطموحِ والأملِ ، فالقاموسُ اللفظي للشاعرِ يعجُّ في كل قصائده ومقطوعاته تقريباً بكلمة (الماء) كمعادل نفسي للبحث عن الخصوبة، وما يشتقُّ منها أو يتعلق بها مثل الندى، الماء، الديم، الغيم، الرعد، الدمع، المطر، والبَرَد ، السحاب، الغيث، الريق، السماء، فهذه الألفاظ تكاد تُغطّي ديوانه بالكامل، وهي سمةٌ لفظيةٌ تُميّزه عن غيره من الشعراء:
عَلَّمْتَ إِنْسانَ عَيْني أَنْ يَعومَ فَقَدْ
جادَتْ سِبَاحَتُهُ في ماءِ دَمْعَتِهِ
كما يتجلّى ذلك الطموح أيضاً بالسعي الفطري للانتقال إلى عالم الثراء وتغيّر الحال الاجتماعي عبر قاموس لفظي آخر يمتلأ به ديوانه من جهةٍ أخرى، ويتعلق بتكثيف ألفاظ الجواهر الثمينة التي لا تكاد يخلو ذكرها في مقطوعاته وقصائده مثل:
اللؤلؤ والعقد والدرّ واللجين والذهب والعقيق:
متبسِّمٌ عنِ لؤلؤٍ رَطبٍ حكى
بَرَداً تساقَطَ منْ عُقُودِ سَماءِ
أو قوله:
أَشَارَتْ بِأَطْرافٍ لِطَافٍ كأَنَّها
أَنَامِلُ دُرٍّ قُمِّعَتْ بِعَقِيقِ
أو قوله:
أَمْطَرَتْ لُؤْلُؤأً مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ
وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالبَرَدِ
أو في قوله:
قُومي امْزُجِي الكأْسَ بِاللجَيْنِ
وَاحْتَمِلِي الكأْسَ بِاليَدَيْنِ
إلى غير ذلك من مقطوعاته وأبياته التي تملأ مقطوعاته وأشعاره وتضجٌّ بهذين القاموسين اللذين يُعبّرانِ بصورةٍ أو بأخرى عن الأملِ المفقودِ في سيرة الشاعر، وأعني قاموس الماء (الخصوبة) والجواهر الثمينة، وكأنّ ذلك يُفسّرُ –بصورةٍ أو بأخرى- رغبة الوأواء الدمشقي وطموحه برغبة الإنجاب والثراء!
وفي خاتمة القول نذكرُ أنّ لبعضِ الشُّعراءِ المُجيدين أبياتاً تسيرُ بها الركبان وتبقى عالقةً في الذاكرةِ الاجتماعيةِ العامةِ مثلها مثل خلود الأمثال والحكم، وللوأواء الدمشقي بيتاً شهيراً من هذا القبيل:
همْ يحْسدوني على موتي فو أسفي
حتّى على الموتِ لا أخلو من الحسدِ