د. الجوهرة بنت فهد الزامل
تشهد المملكة العربية السعودية تحولاً رقمياً متسارعاً مدفوعاً بالذكاء الاصطناعي، الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من نسيج الحياة اليومية. من المنصات التعليمية إلى التطبيقات الصحية والخدمات الحكومية الرقمية، يعاد تشكيل نمط العلاقات داخل المجتمع السعودي، وسط تحديات تقنية جديدة تفرض نفسها على مختلف الأجيال. هذا التحول يفتح آفاقًا واعدة، لكنه يفرض في الوقت ذاته تحديات اجتماعية عميقة تستدعي رؤية متوازنة ومتكاملة.
تحديات متجددة في العلاقات الإنسانية
مع التحول الرقمي، تراجعت أدوار الأسرة الممتدة التي كانت تمثل سندًا اجتماعيًا متعدد الوظائف، لصالح الأسرة النووية التي، رغم مرونتها، تواجه تحديات العزلة الرقمية وضعف الدعم الجماعي.
كما أن تآكل الخصوصية والثقة نتيجة الاستخدام المكثف للذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الشخصية يزيد من المخاوف، ما يؤثر سلباً على الثقة بين الأفراد والمؤسسات، وهو ركيزة أساسية في بناء نسيج اجتماعي متماسك.
وتتفاقم هذه التحديات مع اتساع الفجوات الرقمية، حيث تبرز فجوة جيلية واضحة؛ إذ يتواصل الجيل الشاب بلغة رقمية مكثفة يصعب أحياناً على الجيل الأكبر فهمها أو مواكبتها، ما يؤدي إلى فجوات في الفهم المتبادل، وربما إلى اغتراب أسري صامت.
فرص لتعزيز الترابط الاجتماعي
رغم التحديات الرقمية، يقدم الذكاء الاصطناعي فرصًا فريدة لتعزيز الترابط الاجتماعي وتقوية نسيج المجتمع، من خلال:
- تمكين ذوي الاحتياجات الخاصة عبر أدوات تواصل ذكية تُسهّل اندماجهم الكامل في المجتمع.
- إنشاء مجتمعات افتراضية داعمة توفر بيئات تفاعلية تحفّز الدعم النفسي والاجتماعي، مع تقديم خدمات صحية ونفسية متكاملة عبر التطبيقات الرقمية.
- تسهيل التواصل بين الأفراد في حالات السفر، المرض، والابتعاث، مما يقلص الفجوات الجغرافية والاجتماعية، ويعزز الانتماء والاستمرارية في العلاقات.
نحو سياسة رقمية إنسانية متكاملة ترتكز على الابتكار
مع المبادرات الوطنية، وعلى رأسها «السعودية الرقمية» التي تمثل الرؤية الشاملة للتحول الرقمي، والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) المتخصصة في تطوير الذكاء الاصطناعي والبيانات، وفي ضوء القفزات النوعية التي تحققها المملكة في هذا المجال، تبرز الحاجة إلى توسيع مفهوم «التحول الذكي» ليشمل بُعدًا إنسانيًا واجتماعيًا متجذرًا في قيمنا الوطنية.
ومن هذا المنطلق، يمكن بناء ريادة سعودية فريدة من خلال تبني نموذج رقمي يرتكز على القيم الوطنية ويُنجز ذلك عبر حلول مبتكرة، منها:
- منصة وطنية ذكية للربط بين الأجيال:
منصة رقمية تفاعلية تستخدم الذكاء الاصطناعي لفهم أنماط تواصل الأجيال المختلفة وتقترح وسائل حوار مخصصة تعزز الفهم والتواصل، مما يحد من الفجوة الرقمية والاغتراب الأسري.
- مركز رقمي وطني للتوجيه النفسي والاجتماعي بالذكاء الاصطناعي:
مركز يستخدم تقنيات متقدمة لتحليل مؤشرات الصحة النفسية والاجتماعية، ويقدم استشارات مخصصة وتدخلات مبكرة عبر تطبيقات ذكية تحترم الخصوصية الثقافية.
- مشاريع تجريبية للمدن الذكية الإنسانية:
مبادرات تطبيقية في مدن أو أحياء مختارة تدمج التكنولوجيا الرقمية مع التصاميم الحضرية لتعزيز التفاعل الاجتماعي والروابط المجتمعية، مثل مساحات تفاعلية رقمية وأدوات تواصل مجتمعية مدمجة في البنية التحتية.
- برنامج «سفير الرقمنة الإنسانية»:
برنامج تدريبي يهدف إلى تخريج سفراء متخصصين في الاستخدام الإنساني والأخلاقي للتقنيات الرقمية، يقومون بتوعية المجتمع وتعزيز الوعي الرقمي بشكل مستدام.
- خوارزميات تحفيزية للسلوكيات الإيجابية عبر المنصات الرقمية:
تطوير خوارزميات ذكاء اصطناعي تحفز المستخدمين على تبني سلوكيات رقمية إيجابية تعزز التفاعل الاجتماعي والتعاون، من خلال مكافآت رقمية وأنشطة تشاركية.
أهمية الوعي والتربية الرقمية
لا يمكن نجاح هذا التحول إلا برفع مستوى الوعي الرقمي منذ المراحل التعليمية المبكرة، ودعم مؤسسات الإعلام ومؤسسات المجتمع المعنية، مع الانتباه إلى المخاطر المحتملة على الأمن النفسي والاجتماعي، دون تهويل أو تبسيط.
خاتمة
«رقمنة بلا اغتراب» ليست مجرد شعار، بل رؤية متكاملة لمجتمع سعودي واعٍ ومسؤول، يحافظ على جوهر علاقاته الإنسانية وقيمه العميقة، ويضع الإنسان في قلب التطور التقني.