تغريد إبراهيم الطاسان
في كل عام، تتجلَّى عظمة الإسلام في أبهى صورها حين تتجه قلوب المسلمين وأقدامهم إلى بيت الله الحرام، متجردين من المظاهر، متوحدين في الشعيرة، مختلفي الأوطان واللغات لكنهم يذوبون في وحدة المقصد والروح.
وفي موسم الحج لهذا العام، تترسخ هذه المعاني النبيلة بتوجيه كريم من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- باستضافة (1300) حاج وحاجة من أكثر من (100) دولة، ضمن برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج والعمرة والزيارة، في مبادرة ليست إنسانية أو دينية فقط، بل هي تجسيد لفلسفة المملكة في الريادة الروحية للعالم الإسلامي.
إن الحج - في جوهره - ليس مجرد عبادة، بل هو رحلة عميقة في معنى الانتماء والعودة إلى الذات؛ يتجرَّد فيها الإنسان من أنانيته، ويقف فيها مع الجماعة في طواف وسعي ووقفة، وكأن البشرية بأسرها تعيد صياغة علاقتها بالله والكون والناس.
ومن هنا، يكتسب هذا البرنامج -الذي تنفذه وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد- قيمة تتجاوز الحدث الظرفي لتصل إلى مشروع حضاري دائم، يبني جسورًا من الأخوة الإسلامية والتواصل الثقافي والدعوي بين شعوب الأرض.
لقد عبَّر معالي وزير الشؤون الإسلامية، الشيخ الدكتور عبداللطيف آل الشيخ، عن شكر الأمة بأسرها عندما رفع التقدير لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين -أيَّدهما الله- مؤكدًا أن هذا التوجيه الكريم هو امتداد لنهج سعودي راسخ في خدمة قضايا الأمة الإسلامية، وتثبيت للمملكة كقلب نابض للعالم الإسلامي، لا من موقع جغرافي فحسب، بل من عمق مسؤولية شرعية وتاريخية وأخلاقية.
وهناك آلية منضبطة في اختيار الضيوف لأنها تعكس عدالة البرنامج، ورسالته الشاملة، وعمقه المؤسسي والدعوي، كما تعزِّز ثقة القارئ العالمي بأن الاستضافة ليست عشوائية، بل مدروسة ومبنية على معايير نوعية، حيث تتم آلية اختيار الضيوف بعناية عبر التنسيق مع الملحقيات الدينية، والمراكز الإسلامية الرسمية، والمؤسسات المعتمدة في الدول المختلفة، بما يضمن شمول البرنامج لقيادات دينية وفكرية وأكاديمية ومؤثِّرة في مجتمعاتها، ويعكس التنوّع الحقيقي للأمة الإسلامية في ثقافاتها ومذاهبها ولغاتها، ويؤكد على وحدة الصف الإسلامي تحت مظلة خدمة الحرمين الشريفين.
كما تقوم الوزارة بتنفيذ خطة متكاملة تبدأ منذ لحظة ترشيح الضيف، ولا تنتهي إلا بعد عودته محمَّلاً بروحانية المناسك ودفء الحفاوة، وتشمل هذه الخطة برامج إيمانية متزنة، وزيارات علمية وثقافية لأهم معالم مكة والمدينة، ولقاءات مع علماء وأئمة الحرمين الشريفين، ما يجعل من هذه الرحلة تجربة روحية ومعرفية تُرسّخ مفاهيم الإسلام الوسطية وتُعزِّز الروابط بين الشعوب الإسلامية.
إن ما يُقدَّم في هذا البرنامج لا يُقاس فقط بعدد الحجاج المستضافين، بل في نوعية الأثر الذي يتركه في نفوس المشاركين ومجتمعاتهم بعد عودتهم، إذ يصبح كل ضيف سفيرًا لحفاوة الحرمين، وشاهدًا على ما تبذله المملكة من رعاية وخدمة وتيسير للحجاج، مستلهمة بذلك مبادئ الإسلام في الإحسان والتكافل، ومجسدة رؤيتها 2030 في بعديها الإسلامي والإنساني.
منذ انطلاقته عام 1417هـ، استضاف البرنامج أكثر من 65 ألف حاج من 140 دولة، وهو رقم ليس مجرد إحصاء، بل مرآة لرسالة تتنامى عامًا بعد عام، ومكانة تتعمَّق في ضمير الأمة، ومشروع علاقات دولية مبني على الاحترام المتبادل، والتعاون في الخير، والحوار بين الحضارات من منطلق الإيمان المشترك.
وهكذا، تصبح استضافة الحجاج من شتى بقاع الأرض رسالةً عالمية ذات مضمون إسلامي شامل، تحقّق فيها المملكة معنى «الخدمة» لا كواجب سياسي، بل كتشريف إيماني، وتقدّم فيها نموذجًا للدولة التي ترتقي بخدمة الحرمين من منطلق العقيدة، وتُعلي من مكانة الإسلام بالخلق، وتبني من ضيوف الرحمن جسورًا من المحبة والسلام.
نسأل الله أن يجزي خادم الحرمين الشريفين وولي عهده خير الجزاء، وأن يديم على هذه البلاد أمنها وريادتها، لتظل قبلةً للأرواح قبل الأقدام، وموئلاً للإيمان، ومصدر إشعاع حضاري للعالمين.