د.علاء الدين محمد كوكانجيري
في عالم باتت فيه المادية طاغية، تغلب فيه المصالح الفردية على القيم المشتركة، وتغرق الأرواح في زحمة التفاصيل اليومية واللهاث خلف متطلبات الحياة، يأتي الحج كنسمة إيمانية تُنعش القلب، ووقفة روحية تُعيد ترتيب الأولويات. الحج ليس مجرد طقس ديني يُؤدى في وقت محدد، بل هو رحلة تطهير وتزكية، ومساحة للتأمل والانفصال عن ضجيج الحياة، وانخراط في صمتٍ مقدس يُتيح للروح أن تهمس بما عجز اللسان عن قوله.
في الحج، تُهدم الفوارق المصطنعة بين البشر، يخلع الإنسان رداءه المعتاد، بما فيه من رموز للهوية الاجتماعية والمكانة الدنيوية، ويرتدي الإحرام، ذلك اللباس الموحد الذي لا يميز بين غني وفقير، ولا عربي وأعجمي، يسعون إليه بأقدامهم، وقلوبهم، ودعائهم. هنا تتجلى إنسانية الإنسان، وتعلو الروح فوق الجسد، ويُصبح لكل خطوة معنى، ولكل دعوة أثر، ولكل دمعة قصة.
إنه لحظة كونية فريدة، تتوحَّد فيها الملايين قِبلتهم، ويُعلنون في آنٍ واحد انتماءهم لله وحده، وتحررهم من أسر الدنيا، وتطلعهم إلى معانٍ أسمى. وفي زمن التمزّق والتنافر، يكون الحج نداءً للوحدة، ورمزًا للتلاحم بين الشعوب، وتذكيرًا بأن ما يجمع البشر أكثر مما يفرقهم.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي، أحد أعلام الفكر الإسلامي وفلاسفته الكبار: «الحج هو السفر إلى الله، بالتجرد عن الدنيا والرجوع إلى المبدأ الأول.» في هذه الكلمات تختزل حقيقة الحج الكبرى، فهو ليس مجرد انتقال جسدي من بلد إلى بلد، بل هو ارتحال روحي وتجرد داخلي وعودة إلى الأصل الذي منه بدأ الإنسان وإليه يعود. إنّه رحلة مزدوجة الأبعاد، ظاهرها الحركة في الأرض، وباطنها السمو إلى الأعالي، معراج أرضي يعلو بالروح إلى السماوات النقية.
وقد شبّه المفكر الإسلامي الدكتور عبدالوهاب المسيري الحج بـ»العودة الرمزية إلى الجذر الحضاري الأول للإنسان»، حيث تنتفي الحواجز المصطنعة التي راكمتها الحضارة المادية، وتسقط الهويات الزائفة التي رسّختها الأيديولوجيات الحديثة. فلا طبقات، ولا ألقاب، ولا قوميات، بل الإنسان في جوهره الأول، الإنسان ككائن مخلوق على فطرته، واقفاً بين يدي خالقه، ساعياً إلى مغفرته، طامعاً في رحمته وسلامه.
في هذا المقام، تتهاوى أوهام السيطرة والتميز، ويبدأ المرء في اكتشاف ذاته كما أرادها الله له: متواضعة، خاشعة، تائبة. ومن هنا، فإن الحج ليس فقط فريضة تعبّدية تُؤدى بالجوارح، بل هو كذلك إعادة تشكيل للوعي وتنقية للبصيرة، وتربية للقلب على قيم الصفاء والمساواة، والتسليم الكامل لله. نعم! إنه معراج روحي، يبدأ من الأرض، لكنه لا ينتهي إلا عند أبواب السماء.
قال المفكر الهندي رابندرانات طاغور: «في الحج، رأيت الوحدة الإنسانية في أبهى صورها؛ لا شرق ولا غرب، فقط وجوه تتجه نحو النور.» تلك العبارة ليست وصفًا عابرًا، بل تعبير بليغ عن أعظم مشهد إنساني يتكرر كل عام، حيث تجتمع ملايين الأرواح من أطراف الأرض، بمختلف ألوانها وألسنتها وأعراقها، في مكان واحد، وفي وقت واحد، لهدف واحد: التعبّد لله عزَّ وجلَّ.
ذلك الحشد البشري الهائل، الذي يتحرك بانسياب وتناغم أشبه بموج البحر، لا تدفعه مصلحة دنيوية، ولا يجمعه عقد اجتماعي، بل توحّده نداءات الإيمان، وتلهمه نفحات التجرّد من الذات، والرغبة في القرب من المطلق. إنه مشهد مهيب يعيد تشكيل الوجدان الإنساني، حين يتحرّر من عصبيات العرق والجنس واللغة، ليذوب في نهر الطاعة والخشوع، ويُستعاد فيه معنى الإنسان الكامل، الذي يسمو فوق الحواجز، ويتجاوز الفروقات.
وكتب المفكر اللبناني الدكتور علي شريعتي: «الحج هو نفي للأنانية... هو أن تخرج من نفسك، وتعيش مع الجماعة، دون أن تفقد فرديتك.» في هذا القول عمق فلسفي لا يُستهان به، فالحج تجربة روحية واجتماعية في آن؛ إنه انتقال من ضيق الأنا إلى سعة الجماعة، ومن تشظي الذات إلى تماسك الكل، دون أن يكون ذلك على حساب التفرّد والتميّز.
في الطواف حول الكعبة، نجد أجسادًا مختلفة تتحرك في دائرة واحدة، كأنها نبض كوني يعيد تذكير الإنسان بمركزية التوحيد. وفي السعي بين الصفا والمروة، يُستحضر التاريخ الروحي لأسرة النبي، ليصبح كل حاج شريكًا في رسالة أزلية. وفي الوقوف بعرفة، تتجلَّى المساواة في أوضح صورها؛ لا امتياز إلا بالتقوى، ولا تمايز إلا بالنية والعمل. بهذا، يصبح الحج درسًا عميقًا في فلسفة الاجتماع البشري، حيث تذوب الفوارق، لكن لا تُمحى الهويات؛ وتتعزَّز الجماعة، دون أن يُلغى الفرد. هو وحدة في التنوّع، وتنوّع في الوحدة، مشهد تتعلم منه المجتمعات كيف تعيش معًا، باختلافاتها، دون صراع أو تهميش. إنه تجلّ عملي لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...} (13) سورة الحجرات، فالحج ليس مجرد شعيرة، بل مدرسة، ومشهد، ورسالة، يعيد للإنسان إنسانيته، ويذكره بأنه جزء من كيان أكبر، يسير نحو النور.
الحج، هذا الركن العظيم ليس مجرد شعيرة دينية يُؤدى أداءً آليًا، بل كان عبر العصور تجربة روحية وفكرية وإنسانية عميقة تهز وجدان الإنسان وتعيد تشكيل رؤيته للعالم وذاته ومجتمعه. وقد شهد كثير من المفكرين والمصلحين، ممن أدّوا هذه الفريضة، أن الحج غيّر مسار حياتهم وفتح أعينهم على آفاق لم يكونوا يرونها من قبل.
يقول مالكوم إكس، الزعيم الأمريكي المسلم الذي أدى فريضة الحج عام 1964، في رسالة شهيرة من مكة المكرمة: «لقد رأيت في مكة ما لم أره من قبل؛ أناسًا من كل الألوان، من الشُقر ذوي العيون الزرقاء إلى الأفارقة السود، يجتمعون معًا، يُصلّون معًا، ويأكلون معًا، ويعيشون كعائلة واحدة، لا تفصل بينهم لغة ولا لون ولا قومية. لقد غيَّر الحج نظرتي إلى العنصرية وإلى العالم بأسره.» كانت تلك اللحظة لحظة تحوّل كبرى في حياته، إذ اكتشف عالمًا مختلفًا عن عالم التمييز والعنصرية الذي نشأ فيه في الولايات المتحدة. رأى أن الإسلام، في جوهره، يحرِّر الإنسان من قيود العصبيات الضيقة، ويعيد تشكيله في بوتقة الإنسانية الجامعة.
أما محمد إقبال، الأديب والفيلسوف الباكستاني، فقد نظر إلى الحج من زاوية حضارية أشمل، فرأى فيه مدرسة روحية تعلّم المسلم أنه جزء من أمة ذات رسالة تتخطى الحدود الجغرافية والانتماءات العرقية، حيث يقول: «الحج ليس ذكرى عابرة، بل هو ميلاد جديد.. ولادة أمة تعرف أن الله ربّها، وأن الإنسان أخوها.» لقد رأى إقبال في الحج مشهداً كونياً تتجلّى فيه وحدة الأمة الإسلامية، وتُستعاد فيه المعاني العليا للعدالة والمساواة والتجرد من زخارف الدنيا. هو لحظة تفتح حضاري تعيد للمسلم وعيه بدوره الرسالي، وتربطه بعمق بتاريخه ومصيره الجمعي.
ويجمع المفكرون الذين كتبوا عن الحج على أنه رحلة تحوّل؛ يخلع فيها الإنسان عن نفسه ثيابه المألوفة، لا بمعناها الحسي فحسب، بل بمعناها الرمزي: يخلع كبرياءه، أنانيته، تمايزه الطبقي، ليندمج في بحر من الطهارة والمساواة، فيقف إلى جوار أخيه الإنسان على صعيد واحد، يرفعان أيديهما بذات الرجاء والدعاء. ليس عجبًا أن يكون الحج في وجدان المفكرين المسلمين نقطة انبعاث، وتجربة لا تُنسى، بل لحظة ولادة جديدة تعيد بناء الإنسان والعالم.
إن الحج، في معناه العميق، هو رحلة بحث عن الذات، ومحو للخطايا، وعودة إلى الأصل، وهو مدرسة عظيمة في الإنسانية، ووحدة الإنسان في أعظم صورها. في زمن تكثر فيه التجزئة والفرقة، يظل الحج هو النداء الذي يجمع، واللحظة التي تشرق فيها الشمس على الجميع بلا استثناء. هو التأمل في عظمة الخالق، والانحناء أمام جلاله، والخروج من الدائرة الضيقة للذات إلى فضاء الرحمة والصفاء والسمو. ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نفهم لماذا ظل الحج عبر التاريخ وسيلة من وسائل التجديد الروحي والاجتماعي، ومصدر إلهام للفرد والمجتمع. لعلنا في كل عام، ونحن نتابع مشاهد الحجيج، نستحضر هذه المعاني، ونستلهم منها دروسًا في الوحدة، والمساواة، والتسامح، والمحبة، لنحيي بها حياتنا ونرتقي بإنسانيتنا.
** **
- محاضر في قسم الماجستير والبحوث للغة العربية، كلية السنية العربية كاليكوت، ومراسلنا في الهند