د. عبد الله القدهي
ورد في محكم التنزيل: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (44) سورة هود.
فانصرفت أذهن الناس إلى اتجاه واحد : جبل صلب مرتفع غير رخو، لتتمكن سفينته عليه السلام من التوقف لينزل ركابها في الأرض. ثمّ تشعبت الآراء في تحديد هذا الجبل ومكانه، فمنها:
- جبل واقع في محافظة شرناق في منطقة كردستان بتركيا.
- جبل مشهور من جبال طيئ في شبه الجزيرة العربية (وقد ورد في الشعر الجاهلي والإسلامي)، ولعل هذا ما عناه الرعيل الأول من المسلمين؛ ثم لما هاجروا من مكة إلى المدينة واختلطوا بأهل الكتاب القاطنين فيها، تأثروا بأفكارهم وأخبارهم، فنتجت طائفة من الأفكار سماها العلماء (الروايات الاسرائيلية) مثل أخبار الطوفان وسفينة نوح وصفتها ومرساها، حيث ورد في سفر التكوين (.. على جبال أرارات وتقع شمال جزيرة ابن عمر من إقليم أرمينية، إلا أن المسلمين أطلقوا عند مجيئهم الى هذه المنطقة فاتحين، اسم (الجودي) على جبل يقع جنوب هذه السلسلة، ولا يزال يعرف باسم جبل الجودي أو جبل جوردين.
- جبل بقرب الموصل.
- جبل أرارات.
ويقال كانت السفينة في أرارآت وجبل الجودي مكان هبوطها.
هنا نتساءل: حيث لم ترد كلمة (جبل) قرين كلمة (الجودي) في القرآن الكريم، فهل لنا ان ننظر لكلمة (الجودي) من مفهوم الكلمة الوصفي!:
ورد في تفسير كلمة جودي : فعل أمر من : جاد بالشيء يجود به جوداً، أعطاه عطاءاً. فيقال للذكر: جد، وللأنثى: جودى.
والله عز وجل جاد على نوح عليه السلام ومن معه بالنجاة من الهلاك مع القوم الظالمين، ومن ثم على أمم من ذريتهم {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} (77) سورة الصافات. وأنزل عليهم بركاته {اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} (48) سورة هود،
ويجود تعالى علّى المؤمنين يوم الحج الأكبر وهم يقفون على صعيد عرفات، صعيد تنزل بركات الله وجوده بجوار آية الله الأولى لأول رسله (صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين)، فهو رب الأولين والآخرين.
يوم عرفه: أفضل يوم عند الله. يقول صلى الله عليه وسلم الله، ينزل تبارك وتعالى الى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: أنظروا عبادي حاؤونى شعثاً غبراً ضاحين (الأضحية، الضحايا) من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يرو عذابي، فلم ير يوماً أكثر عتقاً من النار من يوم عرفه)، تشهده الملائكة، وأتم الله فيه الدين، نزل فيه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (3) سورة المائدة. نزلت على خاتم الأنبياء، بعثه الله إلى الإنس والجن، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا لنبي غيره صلى الله عليه وسلم، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه.
مات صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بواحد وتسعين يوما. فهو الدين إلى يوم القيامة. وكانت سفينة نوح عليه السلام آية حفظها الله تذكرهم بأنه رب الأولين والآخرين.
جبل الرحمة: هو أكمة صغيرة، تقع خارج الحرم، مشكلة من حجارة صلدة كبيرة الحجم ذات لون أسود. بطول حوالي 300 متر ومحيط حوالي 600 متر ويرتفع حوالي 60 مترا. يطلق عليه العديد من الأسماء، منها: جبل ألإل، جبل التوبة، جبل الدعاء، النابت، جبل القرين.
الصعود فوق جبل الرحمة: يكره الوقوف على الجبل، فليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الصعود فوق جبل الرحمة، وقيل: لا يرتفع إلى الجبل إلا لضرورة. فهو صلى الله عليه وسلم ركب راحلته القصواء بعد العصر حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته إلى الصخرات واستقبل القبلة حتى غاب قرص الشمس، وقال (وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف)، وقيل وقف على صخرة من الصخرات الكبار المفترشة في طرف الجبل ولم يصعد.
صعيد عرفات: سهل واسع رحب، امًا كان في علمه جل وعلا من اجتماع الملايين من المصفى قادم الزمان، بجوار آية نوح عليه السلام، يبتهلون ربهم يرجون رحمته ويخشون عذابه، لينزل عليهم بركاته وهو البر الرحيم، كما أنزلها على نوح ومن معه، فتبارك الله رب العالمين.
فلعل حقيقة ان الجبل يقع خارج الحرم، وانه ليس من هديه صلى الله عليه وسلم الصعود عليه: استشراف الحاجة (عندما يأذن الله) للبحث في جوف الجبل تحت تلك الصخرات الكبيرة من آية لله عظيمة.. وبالله التوفيق..
** **
- نائب رئيس مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية سابقا