هويدا المرشود
نغرق في بحر معلومات ولا نُجيد السباحة.
نتلقف الحقائق كمن يشرب بلا وعي ونظن أننا نرتوي بينما في أعماقنا يشتدّ العطش.
نُحادث الفهم وكأننا نمتلكه في حين أننا لا نكاد نلامسه.
أنا لا أكتب عن المعرفة فقط بل عن الفراغ الذي يتوارى خلف زخم المعلومة.
عن جهلٍ تزيّنا له بشهاداتٍ وألقاب.
عن وعيٍ أصبح صورة بلا روح.
نُخدَّر تحت وهم المعرفة.
نظن أن العيون التي قرأت كثيرًا صارت قادرة على الرؤية وأن سرعة الحصول على المعلومة تغنينا عن تأملها.
نتصرف كما لو أن العالم من يمتلك كل الإجابات لا من يجرؤ على سؤال نفسه.
نحمل أوراقًا تثبت تعلّمنا لكننا نغفل لحظة صمت تكشف عمق جهلنا.
نُجيد الحديث، ونفشل في الإنصات.
نحفظ تعريف «الوعي»، ونمارس نقيضه في علاقاتنا وخياراتنا وردود أفعالنا.
نتغنّى بالسلام ونُحكم أقفال بيوتنا بالخوف.
نتصنّع النضج ونخوض معاركنا كأننا لم نكبر.
نُكثر من تحليل كل شيء... إلا أنفسنا.
نستهلك المحتوى التربوي كأننا نملأ خزانات ونعامل أبناءنا كمشاريع تُعرض ولا تُفهَم.
ننتج مواد إعلامية عن القيادة ونرتبك أمام أول قرار شخصي جاد.
نرفع شعارات الحرية ونرتعش أمام الرأي المخالف.
نرتدي عباءة الأخلاق ونبرر التنمّر بعبارة «النية الطيبة».
نعرف كيف نقنع لكننا نجهل كيف نتحقق.
نركّز على السلوك الظاهر متجاهلين المنبع الحقيقي.
نسأل: ما الخطأ؟ ولا نجرؤ على السؤال الأهم: لماذا نكرره؟
هذا هو الجهل المتعلّم:
حين تُختزل العقول في فهارس وتتحول القلوب إلى صحارى لا ينبت فيها فهم.
حين يظن الإنسان أنه فهم الحياة لمجرد أنه قرأ عنها.
نبدو أذكى من أي وقت مضى لكننا لا نعرف كيف نعيش.
ولا نفهم سبب ذلك الضيق العميق وسط زخم «الوعي».
كل شيء نتقنه...
إلا أن نفهم أنفسنا كما نفهم الآخرين.
إن التحدي الحقيقي لا يكمن في جمع المعرفة بل في تحويلها إلى وعي ينبع من فهمٍ حقيقي للذات والعالم.
لهذا يجب أن نمنح أنفسنا لحظات من الصمت والتأمل ونطرح أسئلة صعبة عن دواخلنا، لنفكك هذا الجهل المتعلّم الذي يقيدنا ويمنعنا من أن نكون أكثر صدقًا مع أنفسنا.
حينها فقط، نعيش بحرية ونبني مجتمعًا يُضيئه الفهم لا يثقل كاهله تراكم المعلومات.