د.عبدالله بن موسى الطاير
التفاوض حرب بين الأفكار واختبار صعب لقدرات التحمّل وضبط النفس والوفاء بالعهود. بقدر ما يكون التفاوض صعب المراس وشاقاً ويتطلب رباطة جأش ودهاء، فإنه يمنع سفك الدماء وانزلاق الدول والمجتمعات إلى الحروب التي لا تبقي ولا تذر، أو يضع حداً لحروب أو نزاعات مدمرة. عبر التاريخ، عكست المفاوضات في الحضارة العربية الإسلامية مزيجًا من الحكمة السياسية، والمرونة الإستراتيجية، والالتزام بالمبادئ، والوعود، والضمانات. مفاوضات صلح الحديبية، على سبيل المثال، كانت فارقة في تاريخ الإسلام، إذ تم الاتفاق على هدنة لمدة عشر سنوات، مع شروط بدت للبعض في صالح قريش، لكنها مهدت لاحقاً لفتح مكة. إنها نموذج للدبلوماسية الإسلامية، حيث أظهر الرسول صلى الله عليه وسلم مرونة إستراتيجية وحكمة في قبول شروط تبدو غير متكافئة لتحقيق أهداف طويلة الأمد. في العام 20 للهجرة تفاوض عمرو بن العاص مع المقوقس لتسليم مصر بدون حرب، وفي ذات السياق كانت مفاوضات صلاح الدين الأيوبي والملك ريتشارد قلب الأسد خلال الحملة الصليبية الثالثة التي أسفرت عن صلح الرملة عام 1192م، وبموجبه سمح للصليبيين بالاحتفاظ بالساحل من صور إلى يافا، مع السماح للحجاج المسيحيين بزيارة القدس تحت سيطرة المسلمين. بيَّنت هذه المفاوضات توازن القوى والحكمة في التعامل مع عدو قوي مع الحفاظ على المصالح الإسلامية. كما أن المفاوضات بين السلطان المملوكي قلاوون والمغول عام 1281م ثبتت الهدنة بين الطرفين وأوقفت تقدم المغول وأمّنت حدود الدولة المملوكية.
عبر التاريخ، شكلت المفاوضات مسار البشرية، وبنت السلام والتعاون وشيَّدت أسس الأمن والاستقرار والتقدم من رماد الصراعات. التفاوض أصعب من الحرب، وغالباً ما يكون شاقاً ومحفوفاً بسوء الظن وغياب الثقة لكن التفاوض الناجح أدى في نهاية المطاف إلى ترسيم الحدود، وإنهاء الحروب، وعالج الأزمات العالمية، وضمد جراح البشرية. هذا لا يعني أن كل تفاوض قد توّج بالنجاح.
جسدت معاهدة وستفاليا 1648م قوة تأثير المفاوضات، فبعد أن عصفت حرب الثلاثين عاماً بأوروبا، اشتبك أكثر من 100 وفد للتفاوض حول النزاعات الدينية الطائفية والإقليمية بغرض التوصل إلى حل يرضي هذا العدد الكبير من الفرقاء. أسست تلك المفاوضات لسيادة الدولة الوطنية، وهو مبدأ لا يزال يُرسّخ القانون الدولي، ويعزّز التعايش، وأي خروج عن مبادئه يؤدي لا محالة إلى اشتباك الجيوش. وبالمثل، أسفرت المفاوضات التي استمرت 13 يومًا في كامب ديفيد عام 1978م عن معاهدة سلام، ضمنت منذئذ عدم اندلاع أي حرب بين مصر وإسرائيل، وبالتالي بين إسرائيل وجميع دول المواجهة.
أنهت اتفاقية الجمعة العظيمة في عام 1998م الاضطرابات العنيفة في إيرلندا الشمالية، وهو إنجازٌ تحقق من خلال محادثات شاملة قادها السناتور والدبلوماسي الأمريكي جورج ميتشل وضعت حدا للنزاع المسلح في إيرلندا الشمالية، وأمّنت شوارع لندن والمدن البريطانية من هجمات الإيرلنديين، وأظهرت كيف يُمكن للحوار أن يرتق شتات المجتمعات المتناحرة.
على العكس من النجاح، لم تُكلّل جميع المحادثات بالنجاح؛ فمعاهدة فرساي عام 1919م التي كان من المفترض أن تُرسي السلام بعد الحرب العالمية الأولى، تعثرت تحت وطأة شروط عقابية وتنازلات مُتسرّعة، وتعنت فرنسا للحصول على تعويضات باهظة وقاسية من ألمانية، مما أنتج اتفاقية هشة ومعيبة أذكت الاستياء، وفي النهاية أخذت أوروبا على طريق سريع إلى الحرب العالمية الثانية.
في مكان آخر، هدفت محادثات الدوحة 2020م بين أمريكا وطالبان إلى إنهاء أطول حرب أمريكية في أفغانستان، ورغم توقيع الاتفاق، إلا أن الجدول الزمني المُتسرّع واستبعاد الحكومة الأفغانية إذ ذاك أضعف الاتفاق. كشف استيلاء طالبان السريع عام 2021م على السلطة عن هشاشة الصفقة، مُبيّنًا أن المفاوضات دون موافقة واسعة من أصحاب المصلحة مُعرّضة لخطر الانهيار.
تعالج المفاوضات الناجحة، التي تتسم بالشمولية والجدية والتوازن وحياد الضامنين والتزامهم بتعهداتهم، المظالم الجوهرية وتبني الثقة، بين الفرقاء. اليوم، مع احتدام الصراعات، تُصبح دروس التاريخ مُلحة، فالحروب تبدأ بطلقة من سلاح ناري في جزء من الثانية، وبقرار من دولة، أو من جماعة خارج إطار الدولة، إلا أن إيقاف الحرب لن يكون بيد تلك الدولة أو الجماعة، كما هو أثر الحرب الذي لن يبق في حيز جغرافي معين. إيقاف الحرب لن يكون بالمزيد من القصف وإنما تظل المفاوضات أفضل أداة للبشرية لحل النزاعات وتجنب الكوارث، إذا توفر لها الصبر والاستعداد لرأب الصدع، والعزم على الالتزام. طريق السلام والاستقرار لا يتحقق بالإنذارات النهائية، والشروط التعجيزية والتعنت، بل بالحوار - مهما كان شاقًا؛ عندما تنجح المفاوضات، يتُغيّر العالم للأفضل، وإذا فشلت تكون التكلفة باهظة.