د. صالح العبدالواحد
في عالم يضج بالإعلام الموجَّه، وتضيع فيه الحقائق وسط مؤثّرات الصوت والصورة، من النادر أن نشهد تحوّلاً صادقًا في موقف إعلامي غربي مؤثّر.
لكن مؤخرًا، بدا أن شيئًا مختلفًا يحدث.
الإعلامي البريطاني الشهير بيرس مورغان، والذي عُرف لسنوات كصوت يواكب السردية الغربية الكلاسيكية، خرج فجأة ليُدين ممارسات الاحتلال، ويقف بصراحة مع الحق الفلسطيني.
المتابعون عبر وسائل التواصل الاجتماعي رأوا في ذلك «صحوة ضمير»، لكن الحقيقة، على الأرجح، أعمق بكثير.
فما حدث لم يكن وليد لحظة عاطفية، بل نتيجة خلفية صامتة نسجت هذا التحوّل بهدوء.. بعيدًا عن الكاميرات الصاخبة، في مكان رمزي يتحدث آلاف اللغات.
لقاء في قلب التاريخ
قبل ثلاثة أشهر، استضافت المملكة العربية السعودية اثنين من أبرز الأصوات الإعلامية الغربية: بيرس مورغان وتاكر كارلسون.
لم تكن الدعوة تقليدية، ولا اللقاء عابرًا.
كان مختلفًا تمامًا: حوار غير معد، بلا نص مكتوب، ولا أجندة مسبقة.
المكان: أنقاض الدرعية.
لم يكن ذلك مصادفة، بل رسالة مرئية بليغة:
«هذه الأرض التي تنهض من تحت ركامها، ليست مجرد حجر، بل قصة أمة كاملة.. من هنا بدأت، ومن هنا تستمر.»
جلس الاثنان على كراسي بسيطة، وخلفهما أنقاض ليست كأنقاض، بل شواهد ناطقة عن نهوض من الرماد.
لم تكن الخلفية مجرد مشهد تصوير، بل رمزًا لحق الشعوب في استعادة ذاتها، رغم كل محاولات الطمس والتشويه.
الصورة التي اختصرت آلاف الكلمات
ربما لا يكون اللقاء قد تناول الشأن الفلسطيني مباشرة، لكنه حمل ما هو أبلغ من التصريحات:
في عصر الذكاء الاصطناعي والتعليم الموجَّه، كان الموقف أذكى، والمنهج أعمق.
تحدث الرجلان بحرية في الهواء الطلق، وكأن جدران الدرعية تهمس لهما بما لم يقل من قبل.
لم يشاهدا المملكة كما اعتادا أن يرياها؛ ضمن تقارير مجتزأة، أو من وراء عدسات ملوّنة برؤية الآخر.
شاهدا كيف يكون النهوض فعلا ً سياسيًا، ورسالة إنسانية، وسردية عادلة تُروى بلا ضجيج.
خرج بيرس مورغان من اللقاء شخصًا مختلفًا.
لم يكن الأمر متعلقًا بما قيل خلال النقاش، بل بتأثير الجو المفعم بالحقائق والبصيرة.
لم يعد مورغان مجرد ناقل أو متفرج، بل بدأ يتحدث بضمير حي، وأسلوب حر.
انتقد الكيل بمكيالين، أدان القصف، وفتح نوافذ مسدودة في العقل الغربي.
الدبلوماسية الصامتة..
حين تُضيء ولا تصرخ
ما فعلته الدبلوماسية السعودية في هذا اللقاء لم يكن مشهدًا عابرًا، بل عملاً احترافيًا مدروسًا.
قدم الإعلام السعودي الحديث سردية جديدة لا تُفرض بالقوة، بل تُزرع بهدوء في الوجدان.
سردية لا تصرخ، بل تُضيء.
اختيرت الخلفية بعناية: أنقاض تشرح كل شيء.
لم تقل شيئًا، لكنها جعلت الآخر يرى ما لم يكن يراه من قبل.
وهنا تكمن عبقرية التأثير:
ألا تحاول إقناع الآخر مباشرة، بل إن تخلق بيئة تجعل القناعة تولد داخله، دون ضغوط، بل برؤية صادقة.
روايتنا.. حين تُروى بأصواتنا
ما نشهده ليس مجرد تغيّر في موقف إعلامي، بل انعطافه في الطريقة التي تُروى بها القصص الكبرى.
لقد بدأ الغرب، ولو جزئيًا، يُدرك أن هناك رواية أخرى في هذه المنطقة، رواية كُتبت بأرواحنا وأجسادنا، لا بالشكوى والانتظار.
وإذا كان لقاء الدرعية قد زرع هذا الوعي في اثنين من أبرز المؤثّرين العالميين، فإننا أمام لحظة رمزية يجب أن نلتقطها ونبني عليها.
بل الأهم من ذلك، أن مواقف الكثير من زعماء العالم، بعد لقائهم بالدبلوماسيين السعوديين، شهدت هي الأخرى تحولات ملحوظة.
لقد بدأت المملكة تروي قصتها للعالم بطريقتها، وبصوتها، ومن عمق وجدانها الحضاري.
والمفارقة أن هذا الصوت الجديد لا يحتاج إلى صخب.
يكفي أن يكون نابعًا من قلبٍ صادق، من إرثٍ قياديّ عميق، من جيناتٍ قيادية وزعامةٍ ذكية، عُرف بها من أسّس، وبنى، وأكمل المسيرة؛ خبرةٌ تمتد على مدى ثلاثمائة سنة في هذا المجال.
ومن لا يرى الدور المؤثِّر الذي يقوم به ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان على جميع الأصعدة، ضمن رؤية شاملة، وتوجيهات مباركة من مولاي خادم الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أيَّده الله - فهو إما غافل.. أو لا يريد أن يرى.