د. إبراهيم بن جلال فضلون
«اغتروا بالحج فيخرجون إليه من غير خروج عن المظالم، وقضاء الديون، واسترضاء الوالدين، وطلب الزاد الحلال.» هكذا قال بن الجوزي -رحمه الله-، فالمملكة تدرك أن خدمة الحرمين شرف لا يُقارن، وتتعامل مع ضيوف الرحمن على أنهم أمانة في أعناقها، وبالتالي سخّرت طاقاتها كافة بعشرات الآلاف من الرجال والنساء من مختلف القطاعات، في تكامل وشمولية وطنية، وفرت خلالها كل الإمكانيات، لا طلبًا للثناء، بل قيام بالواجب، ولقد قالها العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: «يجب علينا ألَّا نتَّخِذَ من الحجِّ نزهةً لا نُريد منه إلَّا أن نُرَفِّهَ أنفسنا، لأن الحجَّ عبادةٌ».
هذه الأقوال تعكس الجهود الاستثنائية في تنظيم موسم الحج لعام 2025، ومدى اهتمام المملكة بالحج، سواء من الناحية الدينية أو التنظيمية، لضمان راحة الحجاج وسلامتهم، فتستعد لاستقبال أكثر من مليون حاج باستخدام أحدث التقنيات لضمان تجربة آمنة وسلسة، ولعل أصدق الكلام لغة الأرقام والبيانات الحديثة حول إدارة الحشود مستخدمة أنظمة ذكاء اصطناعي لتحليل حركة الحشود وإدارتها بشكل لحظي، ومراقبة المخارج والمداخل لمكة المكرمة، مما يسهم في خفض استهلاك سعات الشبكة وتحسين تدفق الحجاج، إضافة للمراقبة الجوية استخدام طائرات مسيرة تبث صورًا مباشرة على مدار الساعة لمراقبة الحشود، وضمان التدخل الفوري عند الحاجة كالإجراءات الوقائية والتعامل مع الظروف المناخية مع توقع وصول درجات الحرارة إلى 52 درجة مئوية، تم توسيع المساحات المظللة بحوالي 50 ألف متر مربع، وتجهيز أكثر من 400 وحدة تبريد، إضافة إلى توفير مياه رش لتخفيف تأثير الحرارة، وتسهيلاً على الحجيج نظمت رحلات قطار المشاعر لسهولة نقل الحجاج بين المشاعر المقدسة بكفاءة عالية، مما يقلل من الازدحام ويضمن انسيابية الحركة.. والطواف الذي تم توسعة صحن الطواف حول الكعبة ليصبح قادرًا على استيعاب أكثر من 100 ألف طائف في الساعة، في خطوة تهدف لتقليل الازدحام خلال أيام الذروة.. وهنا تكمن القوة الحقيقية للمملكة عبر تاريخها الحضاري، وبشهادة العالم، بأنها رائدة في تنظيم أكبر الحشود وخدمة الحجاج، لتكون كل عام متفردة بتجاربها الناجحة المتكاملة في دمج رائع للعراقة والابتكار، وبين الإيمان والإنسانية، وما كان ذلك ليوجد لولا التوجيهات الحكيمة من خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين، حفظهما الله، اللذين يؤكدان في كل مناسبة أن خدمة ضيوف الرحمن شرف عظيم تتشرف المملكة بحمله، وتحرص على تأديته بأعلى المعايير.
لقد كان التنظيم الأمني والخدمات اللوجستية مثار حديث العالم وزعمائها، وإشادات من هنا وهناك بإدارة أكبر حشود الدنيا على مساحة محددة من الأرض، جمعت بخبراتها الإدارية توفير مياه وكهرباء ونظافة وتغذية وإسكان للحجاج، إضافة إلى تنظيم تنقلاتهم عبر منظومات تتبع لحظية وخطط تفويج دقيقة، مصاحبة بالرعاية الصحية عبر مشاركة أكثر من 40 جهة حكومية وأكثر من 250 ألف موظف لضمان الاستجابة السريعة لأي حالات طارئة أثناء أداء المناسك. وقد أشادت منظمة الصحة العالمية بتطبيق السعودية لنظام إلكتروني يسمح بالإنذار المبكر خلال موسم الحج، مما رفع من مستوى الأمن الصحي للحجاج. ومثلها أكدت الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية نجاح المملكة في إدارة الحشود وتوفير الخدمات المتكاملة لضيوف الرحمن.. الذي يبدأ من الوطن، عبر عدة مبادرات داعمة للنجاح كمبادرة طريق مكة التي استمرت هذا العام في تقديم نموذج فريد لتيسير إجراءات الحجاج قبل مغادرتهم بلدانهم من خلال إنهاء الجوازات، والفحص الصحي، وتسجيل الأمتعة في المطارات من بلدانهم والعكس، ليصل الحاج إلى مكة وهو في راحة تامة، دون المرور بأي إجراءات معقدة في المنافذ والعكس عند العودة بسلام لبلدانهم.
وأخيراً فإن الضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه تعكير صفونا، فقد فرضت الجهات الأمنية عقوبات صارمة على الحجاج غير النظاميين، حيث تشير الإحصائيات إلى أن 80 % من حالات الوفاة في موسم الحج الماضي كانت بين الحجاج الذين لم يحصلوا على تصاريح رسمية.. فشكراً خادم الحرمين وولي العهد الأمين، ووزير الداخلية الخلوق وشكراً لكافة الجهات المشاركة ورجال أمننا الأوفياء وكل من ساندهم.