د. حافظ القطيبي
في كلمته أمام المنتدى الاستثماري الأمريكي - السعودي، قدّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطابًا محملًا برؤية فلسفية حول طبيعة القيادة، وشروط النهضة، وحدود التدخل الخارجي في بناء الدول. وقد تجلى هذا البعد حين توجه إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، سائلًا بنبرة تعجبية: «محمد، هل تنام في الليل؟ كيف تنام؟ فقط تفكر... يا له من عمل رائع!».
فهذه العبارة، قد تبدو، في ظاهرها مجاملة تقليدية في سياق دبلوماسي، لكنها في جوهرها تعبّر عن فلسفة عميقة لدور القائد في زمن التحولات الكبرى. فالرئيس الأمريكي لا يثني على اليقظة الجسدية بقدر ما يربط السهر بالتفكير، والانشغال بمصير الدولة، والقلق البنّاء الذي لا يغفو؛ لأن بناء الدولة يتطلب وعيًا يقظًا لا يعرف التراخي.
يشير ترامب إلى أن القادة الحقيقيين هم من «يتقلبون ويستديرون طوال الليل»، يفكرون كيف يجعلون الأوضاع أفضل. أما أولئك الذين ينامون مطمئنين، فلا يمكنهم - في رأيه - أن يأخذوا شعوبهم إلى «الأرض الموعودة».
بهذه الثنائية يرسم الرئيس ترامب ملامح القائد الحقيقي؛ إنه من يحمل وجدان شعبه وينهض بأعبائه، ويجسّد القيادة كقيمة أخلاقية قبل كل شيء. فالقائد وفقًا لهذا التصور، لا يسهر لأسباب شخصية، وإنما لأنه منشغل بمستقبل البلاد ومصالح الناس. ولهذا فإن وصف الرئيس ترامب للأمير محمد بن سلمان بأنه لا ينام، يشير إلى إحساس عميق بالمسؤولية، إذ يتجسد القلق المنتج كقيمة قيادية، ويبرز التلازم بين السهر والتخطيط، وبين اليقظة الفردية والمشروع الجماعي، وهي صورة تفتقدها كثير من الشعوب حين ترى قادتها غائبين عن هموم الناس أو منغمسين في حسابات ضيقة لا ترتبط بمصلحة البلاد، أو منشغلين بخطابات وصراعات سلطوية بعيدة عن جوهر المعاناة اليومية للناس.
ويمضي ترامب في ربط هذه السمات الشخصية بالقيمة العملية للقيادة فيسرد جملة من المنجزات التي تحققت على الأرض في وقت قياسي: الأبراج، البنية التحتية الحديثة، الفعاليات العالمية، وتقليص الاعتماد على النفط. كل هذه المنجزات تُعرض كأدلة على أن السهر والتفكير قد تحولا إلى أفعال واقعية قابلة للقياس. وفعلًا، هناك إنجازات عديدة يلمسها المواطن والمقيم في المملكة، تعكس بصورة واضحة الإرادة الصادقة في بناء الدولة وترسيخ مؤسساتها. وهكذا فإن المعيار الحقيقي للقيادة الناجحة لا يقاس بكثرة الوعود أو جمال الخطابات، وإنما بالإنجازات التي تكشف عن عمل دؤوب وقلق بنّاء يقف خلف كل إنجاز.
وفي أحد أبرز مقاطع الخطاب أكد الرئيس ترامب على أن الإنجازات التي تحققت في السعودية والإمارات جاءت نتيجة قيادة وطنية تتمتع برؤية واضحة، وليس من الخارج على يد خبراء التنمية الغربيين، قائلا: «العجائب المتلألئة في الرياض وأبوظبي لم تُبْنَ من قبل ما يُسمى ببناة الدول أو المحافظين الجدد»، منتقدًا النموذج الغربي القائم على «الهندسة الخارجية»، والذي فشل - برأيه - في كابول وبغداد رغم إنفاق التريليونات من الدولارات.
بهذا التصريح، يفكك الرئيس ترامب مركزية النموذج الغربي، ويؤكد أن النهضة لا تأتي من الخارج، وإنما من مشروع داخلي ينبع من ثقافة الشعب وخصوصياته، ويستجيب لواقعه، لا لما يُملى عليه من الخارج.
ويؤكد ترامب أن ما حدث في السعودية والإمارات لم يكن قطيعة مع التراث، وإنما تجديد له، حين قال إن السلام والازدهار جاءا «ليس من خلال رفض تراثكم، بل من خلال احتضان تقاليدكم الوطنية». ويعكس الخطاب، هنا، تصورًا جديدًا للحداثة يرتكز على تفعيل الخصوصيات الثقافية واستثمارها في بناء مشروع تنموي معاصر، وليس على التغريب أو الانفصال عن الماضي. ويضيف ترامب قائلًا: «لقد حققتم معجزة حديثة بالطريقة العربية»، فهذه الكلمات تتجاوز الإشادة والثناء لتؤكد اعترافًا بشرعية نموذج مختلف عن النموذج الغربي؛ نموذج يُعلي من الأصالة ولا يستبدلها بآخر مستورد.
ومن خلال إشارات ترامب المتكررة إلى أن النهضة تأتي من الداخل، تتبلور رسالة ضمنية موجهة إلى المنطقة العربية مفادها أن التحول الحقيقي ممكنٌ حين يتوفر القائد اليقظ الصادق، والمشروع الوطني، والإرادة المحلية.
قد نختلف في تقييم بعض السياسات لكن خطاب ترامب يطرح درسًا بالغ الأهمية يتمثل في أن النهوض لا يتحقق إلا بوجود قائد يؤمن بالمستقبل، وأن النهضة الحقيقية لا تقوم إلا على مشروع ينبع من الناس ويعود إليهم. وفي هذا السياق يمكن النظر إلى خطاب ترامب عن الأمير محمد بن سلمان بوصفه إبرازًا لنموذج القائد الفاعل، الذي يجسد القيادة كمسار حضاري يحقق نتائج ملموسة وتقدمًا حقيقيًا.
إن قيادة مثل الأمير محمد بن سلمان قد أسهمت في بعث فاعلية الذات العربية، واستعادة ثقتها بقدرتها على النهوض والتقدم. فهل يمكن للمنطقة العربية أن تستلهم هذا النموذج، وتنتقل من قيادة راكدة إلى قيادة يقظة وحاضرة في وجدان شعبها؟ إنه سؤال مفتوح، لكنه يبدأ من نقطة جوهرية، وهي: أن وجود قائد لا يعرف الطمأنينة ولا يهدأ له بال ما لم يرَ بلاده تتقدم وتنهض، هو الشرط الأول لكل مشروع نهضة حقيقي.
** **
- أكاديمي وكاتب، اليمن، عدن