منيرة أحمد الغامدي
في مشهد حمل دلالات سياسية عميقة أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال زيارته إلى الرياض في مايو 2025 رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا. هذا الإعلان التاريخي لم يكن مجرد تغير في الموقف الأمريكي، بل نتاج تحرك دبلوماسي قادته المملكة العربية السعودية، وبشكل خاص سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي بات يُنظر إليه اليوم كصانع تحولات إقليمية حاسمة ومهندس توازنات جديدة في الشرق الأوسط.
لطالما مثّلت العقوبات الأمريكية والأوروبية على سوريا عائقًا أمام أي محاولة حقيقية لإعادة الإعمار أو إدماج البلاد في المنظومة الاقتصادية العالمية فمنذ عام 1979 فرضت واشنطن عقوبات متتالية على سوريا، وصلت إلى أقصاها مع قانون «قيصر» عام 2019، الذي شدد الخناق على أي جهة تتعامل تجاريًا أو ماليًا مع سوريا. تبع ذلك إجراءات أوروبية مماثلة، شملت حظر تصدير النفط، وتجميد الأصول ووقف التعاملات البنكية، غير أن الموقف تغيّر جذريًا هذا العام تحت مظلة سياسية أوسع وأكثر مرونة قادتها الرياض.
ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي التقى الرئيس الأمريكي خلال زيارته للرياض لعب دورًا محوريًا في تسريع القرار الأمريكي، عبر تقديم رؤية شاملة تؤمن بأن استقرار سوريا يصب في صلب أمن المنطقة ويخدم المصالح الدولية كذلك. لم تكن وساطته مجرد مبادرة دبلوماسية عابرة، بل جاءت من موقع قيادة إقليمية ترى أن إنهاء المعاناة الإنسانية في سوريا وفتح الباب أمام إعادة الإعمار هما مسؤولية جماعية تتطلب شجاعة سياسية وأفقًا استراتيجيًا.
ومع صدور القرار الأمريكي، لم تتأخر بروكسل في الاستجابة، إذ أعلن الاتحاد الأوروبي في خطوة متزامنة رفع جميع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، فيما اعتُبر استجابة غير مباشرة للجهود التي قادتها الرياض. وعلى الرغم من أن الدور السعودي لم يكن معلنًا بشكل رسمي في هذه الخطوة الأوروبية، إلا أن عدة مصادر دبلوماسية ألمحت إلى أن النقاشات المكثفة التي أجراها ولي العهد مع عدد من قادة أوروبا خلال الأشهر الماضية قد مهدت لهذا التحول الكبير.
ردود الفعل العربية جاءت سريعة ومبتهجة، حيث رحّبت كل من الإمارات ومصر وعُمان واليمن بالقرار، معتبرةً إياه خطوة إيجابية نحو تخفيف معاناة الشعب السوري، وفتح صفحة جديدة تتيح العمل العربي المشترك لإعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب. كما أصدرت الجامعة العربية بيانًا رسميًا يثمن فيه هذا التطور، ويرحب بانخراط سوريا مجددًا في محيطها العربي والدولي.
اقتصاديًا، لم تنتظر الاستثمارات طويلًا، فقد تم توقيع مذكرة تفاهم بين الحكومة السورية وشركة موانئ دبي الإماراتية بقيمة 800 مليون دولار لتطوير وإدارة وتشغيل محطة متعددة الأغراض في الميناء وذلك في مؤشر على بداية مرحلة جديدة من الانفتاح الاقتصادي يقودها شركاء عرب بثقة واستراتيجية، ومن المتوقع أن تتوالى المشاريع الاستثمارية خصوصًا من السعودية والإمارات، في قطاعات الطاقة والنقل، والبنية التحتية.
أما في الداخل السوري فقد عمّ الابتهاج أوساط الشارع فور الإعلان عن رفع العقوبات وكأن البلاد تنفست للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، اذ خرجت العبارات العفوية من أفواه المواطنين قبل أن تُصدرها البيانات الرسمية، فالمشهد لم يكن سياسيًا بقدر ما كان إنسانيًا. الأسواق أعادت فتح أبوابها بأمل، ورجال الأعمال عبّروا عن تطلعهم لاستعادة نشاطهم، فيما امتلأت وسائل الإعلام ومواقع التواصل برسائل الامتنان للأمير محمد بن سلمان على جهوده وعم التفاؤل بمستقبل أجمل. الشعب السوري، الذي عاش تحت وطأة حصار اقتصادي خانق، رأى في هذا القرار بوابة نحو التعافي، وفرصة حقيقية لإعادة الإعمار وعودة الحياة إلى طبيعتها.
وفي خضم التغطيات والتصريحات التي رافقت رفع العقوبات، ورد على لسان وزير الخارجية الأمريكي ما يمكن تفسيره بأنه دعوة إلى «إشراف أمريكي» على المرحلة الانتقالية في سوريا. وقد أُثير بعض الجدل حول هذه العبارة، إلا أن من المفيد قراءتها ضمن سياقها السياسي والدبلوماسي، إذ قد لا يكون المقصود بها إشرافًا مباشرًا أو تدخلًا في السيادة، بقدر ما تعكس حرص واشنطن على ضمان مسار مستقر ومنضبط للمرحلة المقبلة، وفقًا لمعايير الشفافية وإعادة الإعمار وضبط الأمن. التصريحات السياسية في اللحظات الحساسة كثيرًا ما تُفسر على أكثر من وجه، وقد تكون هذه إحدى الحالات التي تحتاج إلى قراءة أهدأ بعيدًا عن التشنج أو التأويل المتعجل.
النهج الذي اتبعته السعودية في هذا الملف يعكس فلسفة سياسية جديدة تتجاوز أساليب الضغط التقليدية نحو حلول تنموية شاملة. فالمملكة لا تسعى فقط إلى تهدئة النزاعات، بل إلى إعادة رسم خريطة العلاقات الإقليمية بما يخدم الأمن الجماعي ويعزز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة. وهذه الرؤية تتجسد بوضوح في تحركات الأمير محمد بن سلمان، الذي أثبت أن التأثير الحقيقي لا يُقاس بالتصريحات، بل بالنتائج الملموسة على الأرض.
ومن هذا المنطلق فإن رفع العقوبات عن سوريا لم يكن مجرد قرار قانوني دولي، بل انعكاس لقوة التأثير السعودي المتنامي في الساحة العالمية. ويُنتظر من هذه الخطوة أن تفتح آفاقًا جديدة للشعب السوري نحو التعافي، مدفوعة بتعاون عربي حقيقي وشراكة ناضجة، تقودها الرياض بعزيمة وثقة.