محمد عبدالله القميشي
في الخامس والعشرين من مايو عام 1981 وفي ظل أجواء إقليمية معقّدة وتحديات متعددة على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، أُعلن قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية، كترجمة لإرادة قادة الخليج في توحيد الصفوف وتعزيز التكامل والعمل المشترك. واليوم، ونحن نحيي الذكرى الرابعة والأربعين لتأسيسه، نقف أمام تجربة مميزة جسّدت مفهوم التعاون الإقليمي، وقدّمت نموذجًا فاعلًا للتنسيق بين الدول في زمن التغيّرات الكبرى. جاءت الانطلاقة من العاصمة الإماراتية أبوظبي، حيث انعقدت أول قمة خليجية لتعلن ميلاد المجلس، الذي لم يكن ناتجا عن ظرف عابر، بل تجسيد لوعي سياسي يجمع بين دول ترتبط بوشائج الدين والتاريخ والمصير المشترك، وتطمح لبناء مشروع وحدوي يلبّي طموحات شعوب المنطقة.
منذ انطلاقته، تبنّى المجلس رؤية شاملة ترتكز على جملة من الأسس، أبرزها ترسيخ الأمن الجماعي باعتباره مسؤولية مشتركة لا تقبل الانقسام، وتفعيل مسارات التنمية عبر تنويع الاقتصاد وتبنّي المعرفة، وتمكين المواطن الخليجي ليكون جزءًا أساسيًا في عملية البناء، إضافة إلى تعزيز حضور دول المجلس إقليميًا ودوليًا.
على المستوى الاقتصادي، حقق المجلس إنجازات كبيرة، أبرزها إطلاق السوق الخليجية المشتركة التي دعمت حركة السلع ورفعت من معدلات التبادل التجاري، وتأسيس منطقة التجارة الحرة عام 1983 التي تطوّرت لاحقًا إلى اتحاد جمركي عام 2003، ما أدى إلى إزالة الحواجز بين الدول الأعضاء. وتؤكد الإحصاءات حجم التقدّم، إذ بلغت قيمة التجارة البينية أكثر من 131 مليار دولار في عام 2023، في حين تجاوزت التجارة الخارجية 1.5 تريليون دولار، ما يعكس قوة اقتصادية مؤثرة في المشهد الدولي. ويمتلك المجلس ثروات طبيعية ضخمة، حيث تحتل دوله موقعًا متقدّمًا في احتياطيات وإنتاج وتصدير النفط، وتتمتع بحضور فاعل في سوق الغاز العالمية، وهو ما يمنحها دورًا محوريًا في استقرار أسواق الطاقة الدولية. كما تمتلك الدول الأعضاء صناديق سيادية ضخمة تفوق أصولها 4.4 تريليونات دولار، تمثل نحو 34 % من أكبر 100 صندوق استثماري في العالم، وهو ما يؤكد حجم النفوذ المالي والاقتصادي الذي تحققه دول المجلس.
وعلى الصعيد الأمني، أولى المجلس اهتمامًا بالغًا بهذا الجانب، فأقرّ استراتيجية شاملة واتفاقية دفاع مشترك، وأنشأ قوات «درع الجزيرة» كقوة موحدة للدفاع عن أمن واستقرار المنطقة، وقد أثبتت هذه القوات كفاءتها في أكثر من مناسبة.
ومن أبرز مشاريع التكامل أيضًا مشروع الربط الكهربائي الخليجي الذي ساعد في تقليل التكاليف وضمان استمرارية الخدمة، بالإضافة إلى البطاقة الذكية التي سهّلت تنقّل المواطنين بين دول المجلس، ومثّلت خطوة نوعية في تحقيق التكامل الاجتماعي.
وتواصل دول المجلس تحديث آليات التعاون، مع التركيز على دعم الاقتصاد المعرفي، وتطوير مصادر الطاقة المتجددة، وتوسيع شراكاتها الدولية، إلى جانب مواقف سياسية موحدة إزاء التحديات والمستجدات الإقليمية والدولية. لقد جسّد مجلس التعاون الخليجي على مدى أربعة عقود نموذجًا عربيًا ناجحًا في العمل المشترك، قائمًا على القيم والثوابت والرؤية الاستراتيجية، مدفوعًا بإرادة سياسية ناضجة تسعى إلى تحقيق الازدهار والاستقرار لشعوب الخليج في عالم متغير.
ختامًا: ويُسجَّل للمملكة العربية السعودية دورها القيادي في دعم مسيرة المجلس منذ لحظة تأسيسه وحتى اليوم، حيث مثّلت ركيزة الاستقرار ورافعة القرار الجماعي، من خلال جهودها في احتضان القمم، ودعم المبادرات، ورسم ملامح المواقف الموحدة. لقد أثبتت المملكة، بقيادتها الحكيمة، أنها الحاضن الأول لهذا الكيان، والسند القوي لأشقائها في السراء والضراء، ما جعلها عنوانًا للمسؤولية، وصوتًا مرجعيًا في مسيرة الخليج نحو المستقبل.