عبدالوهاب الفايز
الوحدة العربية التي ما زالت مستقرة وناجحة، -ولله الحمد-، هي الوحدة السعودية التي بدأت مع تأسيس المملكة العربية السعودية على يد الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله-. هذه الفترة الحاسمة في تاريخ الجزيرة العربية لم تقتصر على توحيد الأراضي وبناء الدولة فحسب، بل كانت أيضًا مسرحًا لنفحات علمية وأدبية، وانفتاح ثقافي واجتماعي أسهمت في صياغة الهوية الوطنية الجامعة للدولة، والملاحظ -أو ربما المؤسف- أن مراحل تشكل هذه الوحدة ما زالت بحاجة لجهود الباحثين والدارسين لتوثيقها.
والمؤكد أن الحاجة لتوثيق موروث الدولة ربما يتجاوز هذه المرحلة إلى حقبة التأسيس الأولى على يد الإمام محمد بن سعود، فهذه المرحلة عانت من الصورة السلبية التي رسمها المؤرخون لتلك الحقبة.
وفي مقال سابق في (الجزيرة، 16 فبراير 2022)، قلنا: إن «الرغبة التي انطلقت بها الدولة الجديدة لإحياء المقومات الأساسية للعقيدة الإسلامية، لبناء المؤمن المستنير القوي، هي امتداد لما قامت به الدولة الإسلامية في عصرها الأول، فقد أعادت صياغة البيئة الحاضنة للإنسان التي أنتجت أجيالاً قادت الفتوحات الإسلامية، وبنت دولاً وحضارة عظيمة، فالعلاقة التي بدأت وبُنيت على حب العلم والعلماء عززت دور ومكانة الدولة، وعززت سمعة الدرعية كعاصمة استقطبت طلبة العلم وُنسَّاخ المصحف الشريف، وعلماء الحديث والشعراء ومحترفي الفنون البارزة في الزخرف.. وهذا التنوع هو ثمرة المناخ المتسامح المنفتح على العلوم وعلى جميع المذاهب، حيث كانت تُدرَّس فيها أغلب تفاسير القرآن الكريم ومنها (تفسير الطبرسي)، والعلاقة الإيجابية مع العلم وطلبته ظلت في أولويات الدولة في مراحلها المختلفة.. وحتى وقتنا الراهن».
وكما كانت في الحقبة الأولى أيضًا الحيويّة الثقافية والأدبية أيام الملك عبدالعزيز كانت موجودة ولها حضورها بين النخب، ولكن لم تتضح نتيجة التصورات النمطية السلبية لبعض المؤرخين التي ركزت على بعض مظاهر التزمت الديني والتشدد، حيث أبرزوا الجوانب السياسية والعسكرية ولم يتطرقوا للحس والاهتمام الثقافي والأدبي للدولة ورجالها.
في الوقت الراهن ليس لدينا من وثق هذه المرحلة لكي يبرز هذه الجوانب، حيث الشواهد التاريخية تكشف عن اهتمام كبير بالشعر والأدب والفكر.
وهذا ما يُبرزه المجموع الأدبي للأمير عبدالله بن عبدالرحمن الذي تناولناه الأسبوع الماضي، فهذا المجموع يؤكد ثراء البيئة الثقافية لرجال الدولة، فهؤلاء كانوا يطَّلعون على أمهات الكتب والموسوعات ولديهم المكتبات الكبرى، وهناك رجالات في حاشية الملك عبدالعزيز، من أمثال الأمير عبدالله بن عبدالرحمن في سعة الاطلاع وتنوع المشارب الثقافية والفكرية.
طبعاً هذه البيئة الحاضنة للفكر هي ثمرة لسعة الأفق السياسي والانفتاح الفكري للملك عبدالعزيز، وهناك مواقف عديدة نتذكر منها بيت الشعر وحوار الملك عبدالعزيز والريحاني.
نبني كما كانت أوائلنا تبني
ونفعل (فوق) ما فعلوا
يُروى أن الملك عبدالعزيز في لقائه مع الأديب والرحالة أمين الريحاني، أظهر حسًّا أدبيًّا رفيعًا عندما صحح بيت شعر أنشده الريحاني، فقد قال عبدالعزيز: «نحن نبني فوق ما بنوا»، في إشارة إلى أن مشروعه التوحيدي لم يبدأ من الصفر، بل استند إلى إرث الأجداد من آل سعود.
هذا الموقف يكشف عن وعي الملك عبدالعزيز بالشعر كأداة ثقافية وسياسية، فالشعر في تلك الفترة لم يكن مجرد فن، بل وسيلة لتوثيق الأحداث وتعبئة الروح الوطنية.
كان الملك يستقبل الشعراء في مجلسه، ويستمع إلى قصائدهم مما يعكس اهتمامه بالأدب كجزء من بناء الدولة، هذا الحس الأدبي لم يكن استثناءً، بل كان جزءًا من ثقافة المجتمع النجدي والحجازي، حيث كان الشعر النبطي والفصيح يزدهران في المجالس والمناسبات.
للأسف، أسهم بعض المؤرخين الأجانب، مثل هاري سانت جون فيلبي وبعض المستشرقين، في نقل صورة نمطية أقرب إلى السلبية عن المملكة في سنواتها الأولى، مركزين الحديث على الوهابية والإخوان كعناصر للتزمت الديني. هذه الروايات غالبًا ما أغفلت الجوانب الثقافية والفكرية، مصورة المملكة كمجتمع منغلق يفتقر إلى الاهتمام بالأدب والفكر، لكن الحقيقة تكشف عن واقع مغاير فقد كان الملك عبدالعزيز حكيماً واعياً حين يوازن بين القيم الدينية والاحتياجات السياسية والثقافية، على سبيل المثال، حين استعاد الحجاز عام 1925، احترم الملك التراث الثقافي للمنطقة، وسمح باستمرار الأنشطة الأدبية في مكة والمدينة، إغفال هذه الجوانب من قبل بعض المؤرخين الأجانب جاء نتيجة تحيزات ثقافية أو نقص المعلومات، مما يستدعي إعادة قراءة هذه الفترة بعيون محلية أكثر دقة.
في هذا المقام تبرز شخصية الأمير عبدالله بن عبدالرحمن كمثال حي على العناية بالعلم والأدب في مرحلة التأسيس، لقّبه الملك عبدالعزيز بـ (عالم آل سعود)، تقديرًا لثقافته الواسعة واهتمامه بالمعرفة، كان الأمير عبدالله يمتلك مكتبة غنية، تضم مخطوطات وكتبًا في الأدب والتاريخ والعلوم الدينية، وكان مستشارًا ورفيقًا للملك عبدالعزيز في رحلة بناء الدولة.
اهتمامه بالأدب لم يكن مجرد هواية، بل كان انعكاسًا لفلسفة فكرية ترى في الثقافة أداة لبناء الهوية الوطنية، كان الأمير يدوّن مختارات أدبية تعكس ذوقه الرفيع، وتشهد على دوره كرجل دولة ومثقف في آن واحد.
في مقالي السابق تناولت كتاب «المجموع الأدبي» المنسوب إلى الأمير عبدالله بن عبدالرحمن، والذي يُعدّ بحق «مختارات الأمير عبدالله الأدبية» هذا الكتاب مثل وثيقة تاريخية تكشف عن الاهتمام الأدبي في تلك الفترة، يضم الكتاب مجموعة من النصوص الشعرية والنثرية التي اختارها الأمير بعناية، وتعكس قيم الحقبة الزمنية وهمومها.
كنت أتمنى لو أن الكتاب تضمن تبويبًا لتلك المختارات حسب الموضوعات، مثل الشعر الوطني، أو المدح، أو الرثاء، مع تحديد تواريخ تدوينها، هذا التبويب سوف يسهل فهم السياق التاريخي والغرض من اختيار كل نص.
الأهم من ذلك، كنت أطمح إلى أن يتضمن الكتاب تحليلات معمقة لمختارات الأمير عبدالله، توضح لماذا اختار هذه النصوص دون غيرها، وما الهدف من ذلك، هل كان يسعى إلى توثيق الروح الوطنية؟ أم إلى تعزيز قيم معينة مثل الوحدة والقوة؟ وما العبر التي كان ينشدها؟ ربط هذه المختارات بمراحل تأسيس المملكة كان سيضيف بعدًا تحليليًا يكشف عن كيفية استخدام الأدب كأداة سياسية وثقافية على سبيل المثال، اختيار قصائد تمجد الوحدة قد يكون مرتبطًا بمرحلة توحيد نجد أو الحجاز، بينما النصوص الفلسفية قد تعكس رؤية الأمير لمستقبل الدولة.
لتحقيق هذا الهدف يتطلب الأمر جهودًا من مختصين في الأدب والسياسة لدراسة هذه المختارات بعمق، مثل هذه الدراسات يمكن أن تكشف عن لمحات من الحس والفلسفة الأدبية العربية في فكر رجال الدولة المساهمين في مرحلة التأسيس، فالأدب كما أظهر الملك عبدالعزيز والأمير عبدالله، لم يكن ترفًا، بل كان أداة لتعزيز الهوية الوطنية ودعم لمسيرة بناء الدولة.
تحليل هذه النصوص يمكن أن يكشف كيف: أثرت الثقافة الأدبية في صياغة رؤية سياسية متكاملة، وساهمت في تعزيز التماسك الاجتماعي في مجتمع متنوع القبائل والمناطق.
أخيراً، مرحلة تأسيس المملكة العربية السعودية لم تكن مجرد مرحلة سياسية وعسكرية، بل كانت أيضًا فترة غنية بنفحات العلم والأدب.
من خلال مواقف الملك عبدالعزيز، ومختارات الأمير عبدالله بن عبدالرحمن نرى بوضوح أن الأدب كان حاضرًا كجزء من مشروع بناء الدولة.
إن إعادة قراءة هذه الفترة بعيون تحليلية، بعيدًا عن التحيزات التاريخية، سوف يكشف عن عمق الرؤية الثقافية التي ساهمت في صياغة هوية المملكة، ومن هنا، يبقى على الباحثين والمختصين مهمة استكشاف هذا الإرث الأدبي، لإبراز دوره في مسيرة البناء الوطني.