د. محمد بن أحمد غروي
تولي المملكة خدمة ضيوف الرحمن اهتمامًا رفيع المستوى، وما تسجله سنويًا من تطورات تنظيمية وتقنية يثير الإعجاب العالمي، واستمرارًا لهذه الجهود المُباركة في بُعدها الدولي، هناك حاجة إلى بناء رؤية اتصالية متكاملة في منطقة جنوب شرق آسيا (الآسيان)؛ لاستثمار هذا التميز وتحوله إلى رواية عالمية مؤثرة.
تتجلى هذه النقطة بوضوح في العلاقة مع ماليزيا، الدولة التي تُعد من أقرب الحلفاء الآسيويين للمملكة، دينيًا وثقافيًا، والتي ترسل سنويًا آلاف الحجاج وتملك منظومة حج متطورة ومركزية، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الإعلام الماليزي، خاصة الناطق بالملايوية، قدّم تغطيات إيجابية لموسم حج 1446هـ، واحتفى بمبادرات مثل «طريق مكة» واستخدام التطبيقات الرقمية لمتابعة الحالة الصحية، واعتبرها شواهد على التقدم السعودي، كما أن توقيع صندوق الحج الماليزي اتفاقيات مع جهات حكومية مختلفة، عكس قدرًا عاليًا من الثقة المؤسساتية.
ومع ذلك، فإن هذا الاحتفاء ظل محصورًا في أطر محدودة، ولم يُستثمر لبناء سردية متكاملة تتجاوز الحدث الموسمي نحو مشروع استراتيجي يرسخ دور المملكة كمحور عالمي للحج والعمرة في الذهنية الآسيوية.
وأمام المسؤولين عن الحج والعمرة مجموعة من الفرص الهائلة التي يتيحها التعاون مع المؤثرين الماليزيين، فعلى الرغم من أن آلاف الماليزيين يزورون المملكة كل عام للحج والعمرة، إلا أن محدودية التنسيق مع صُنّاع المحتوى المحليين في ماليزيا على منصات مثل TikTok وInstagram، أدى إلى ضعف التفاعل العميق مع التجربة السعودية الغنية، حيث لم نشهد حتى الآن محتوى نوعيًا منسقًا يعكس ما يعيشه الحاج الماليزي داخل منظومة الحج، ولا نرى جهود ترجمة تتيح نقل الخطاب للملايوية، وهي اللغة الأكثر نفوذًا في ماليزيا.
النتيجة أن ما يظهر في الخارج ليس بالضرورة ما يجري في الداخل، والأصوات السعودية تكاد تغيب في الخطاب الإعلامي الماليزي، ويُكتفى غالبًا بالبيانات أو الأرقام دون التطرق لرواية القضايا أو شرح الأبعاد، كذلك فإن ضعف التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني الماليزي جعل التفاعل محدود الأثر، رغم أنه يمكن أن يكون أداة استراتيجية لخلق حاضنة دينية واجتماعية داعمة للمملكة.
هذا لا يعني تجاهل الإيجابيات، بل على العكس، يُحسب لوزارة الحج وغيرها اهتمامها بالتحسين الميداني والتقني، ويشكر شركاؤها في ماليزيا على مستوى التنسيق والتنظيم، لكن ما نحن بحاجة إليه، هو الإسهام في تحسين الصورة الذهنية وتعزيز الحضور السعودي في وجدان الشعوب الإسلامية.
ولتجاوز الفجوة الاتصالية الحالية وتعظيم الأثر الدولي لتجربة الحج في جنوب شرق آسيا، تبرز الحاجة إلى تأسيس مركز تواصل سعودي متكامل في العاصمة الماليزية كوالالمبور، يكون متخصصًا في إنتاج محتوى منتظم باللغتين الملايوية والإنجليزية، يتفاعل مع القضايا الإعلامية ويخاطب مختلف الشرائح المجتمعية في ماليزيا، من خلال أدوات تتماشى مع الخصوصية الثقافية والدينية المحلية. كما أن إطلاق منصة رقمية موجهة لهذه المنطقة تُبرز القصص الإنسانية والتجارب الشبابية للحجاج والمعتمرين الماليزيين، من شأنه أن يُعزز الارتباط العاطفي ويُرسّخ حضور المملكة في الأذهان من بوابة القيم والمشاعر الدينية.
ومن جانب آخر، فإن الحضور السعودي المباشر في الفضاء الماليزي خلال المواسم الكبرى مثل موسم الحج، عبر مشاركة المتحدثين الرسميين في المؤتمرات والحوارات الإعلامية، يمكن أن يسهم في بناء جسور تواصل فاعلة مع الرأي العام المحلي، فضلًا عن أن تدريب المؤثرين الماليزيين على نقل التجربة السعودية بلغة قريبة من جمهورهم، من خلال برامج تبادل وشراكات مؤسسية، يُعزز من سردية الحج ضمن الخطاب الماليزي.
ولا تقل أهمية عن ذلك الحاجة إلى بناء استراتيجية اتصال ديني تُخاطب القضايا الإسلامية المشتركة وتُشرك السفارات والعلماء والرموز الاجتماعية في تنظيم ورش عمل إعلامية دورية، تضمن استدامة هذا التواصل وتوسيع أثره في المدى البعيد.
ختامًا، لا يكفي أن يكون الحج مُحكم التنظيم، بل يجب أن يكون مُحكم الرواية أيضًا، فالتحديات الاتصالية في عالمنا المعاصر لا تُحسم داخل غرف العمليات، بل على شاشات الهواتف، ومن خلال النقل إلى العالم بلغته وقيمه.