شاهين عبداللاييف
يخلّد الشعب الأذربيجاني في ذاكرته في الثامن والعشرين من مايو من كل عام ذكرى يوم الاستقلال. وفي هذا العام يكون قد مر 107 أعوام على إعلان جمهورية أذربيجان الديمقراطية وتأسيس أول جمهورية برلمانية حديثة في العالم الإسلامي. وهي الجمهورية الأولى التي قامت لثلاثة وعشرين شهرًا، بين 28 مايو 1918 و28 إبريل 1920. وتم الاعتراف باستقلال جمهورية أذربيجان الديمقراطية في مؤتمر باريس للسلام في 11 يناير 1920؛ وبذلك تم تأسيس أول برلمان لأذربيجان، ووضع أساس الجمهورية البرلمانية.
وقد بدأ الطريق الديمقراطي في التطور بعد اجتماع مجلس أذربيجان الوطني في 19 نوفمبر 1918؛ إذ تم الإقرار بأن البرلمان يجب أن يتكون من ممثلي جميع الشعوب المقيمين في حدود الدولة. وقد كان هدف البرلمان حفظ استقلال أذربيجان وسلامتها الإقليمية وحقوقها الوطنية والسياسية، وإنشاء العلاقات بين حكومة أذربيجان والحكومات المتجاورة، وإنشاء نظام الدولة القانوني، وتنفيذ الإصلاحات الاجتماعية الواسعة، وإنشاء جيش قوي قادر على الدفاع عن الوطن.
وفي عهد تلك الجمهورية حصلت المرأة في أذربيجان على حق الاقتراع، وهي بهذه الخطوة سبقت حتى الدول الأكثر تقدماً في العالم في ذلك العهد. كما يعد تمثيل جميع الكيانات السياسية والقوميات والأعراق الرئيسية في المجلس الوطني المتمثل في المائة وعشرين مقعداً شاهد عيان على التزام أذربيجان بالمبادئ والمواثيق الدولية الخاصة بالتعددية الحزبية والنظام البرلماني متعدد القوميات.
وعلى الرغم من العمر القصير الذي دام 23 شهراً، وضعت جمهورية أذربيجان الديمقراطية أسس الدولة المستقلة مع تحديد مسار التنمية في المستقبل، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي استعادت أذربيجان استقلالها وأعلنت نفسها وريثًا لجمهورية أذربيجان الديمقراطية في عام 1991 واستعادت سمات العلم والشعار والنشيد الوطني.
الجدير بالذكر أنه بعد وصول الزعيم حيدر علييف لسدة الحكم وأصبح رئيساً لجمهورية أذربيجان خلال فترة ما بين 1993 - 2003، أسس استراتيجية النفط الأذربيجانية وفي عام 1994 تم التوقيع على اتفاقية «عقد القرن» الخاص بتنقيب النفط واستخراجه وتصديره إلى الأسواق الدولية. وحددت أذربيجان مكانتها في منظومة العلاقات الدولية، وبدأت الاعتماد على الاستراتيجية الجديدة في مجال السياسة الخارجية، واستطاعت خلال فترة وجيزة بناء نظام ديمقراطي قائم على التعددية السياسية، وخطت خطوات واسعة نحو تطبيق مبادئ اقتصاد السوق الحر على نظامها الاقتصادي، كما أنه في عام 1995 تم إقرار دستور جمهورية أذربيجان عن طريق إجراء استفتاء عام، وأجريت في البلاد انتخابات برلمانية ديمقراطية.
وتحولت جمهورية أذربيجان في الفترة الأخيرة إلى نقطة ربط بين الغرب والشرق والشمال والجنوب، خاصة بعد إنشاء خط أنابيب باكو - تبليسي - جيهان للنفط، وباكو - تبيلسي – أرزوروم للغاز الطبيعي، اللذين ينقلان النفط والغاز الأذربيجاني إلى الأسواق العالمية. وافتُتح خط باكو - تبليسي- قارص للسكك الحديدية. ويعد المشروع حلقة أولى في ربط قارات العالم القديم في آسيا وأوروبا بعضها ببعض. كما تم افتتاح مشروعين «تاب» و»تاناب» الذين ينقلان الغاز الطبيعي الأذربيجاني إلى أوروبا، ويسهم في أمن الطاقة في القارة الأوروبية.
واستطاعت أذربيجان خلال السنوات الماضية تحقيق إنجازات كبيرة في مختلف مجالات الحياة، ومكّنت من تعزيز نظامها السياسي وتطوير اقتصادها الوطني. أحد أكبر نجاحات أذربيجان الذي حققته في السنوات الأخيرة هو انتصارها في الحرب الوطنية في معارك حرب قراباغ الثانية التي استمرت 44 يومًا (2020م)، يعد هذا النصر صفحة مشرقة في النضال الوطني من أجل تحرير الأراضي المحتلة من المحتل الأرميني، ومنذ نهاية حرب قراباغ الثانية، اضطرت أذربيجان إلى اتخاذ التدابير اللازمة على أراضيها ذات السيادة، بإطلاق عملية محلية لاستعادة أراضيها المحتلة بتاريخ 19 سبتمبر عام 2023. والتي استغرقت لمدة أقل من يوم واحد (23 ساعة و43 دقيقة)، وتم إكمال سيادة دولة أذربيجان ووحدة أراضيها.
ونعتقد أن ضمان اتفاقية السلام الشاملة بين أذربيجان وأرمينيا، والتي تجري بدقة حتى الآن، وبطريقة موجهة نحو تحقيق النتائج هو السبيل الوحيد لإرساء السلام والأمن والرخاء والاستقرار الدائم في المنطقة.
وعلى صعيد السياسة الدولية، باتت أذربيجان شريكًا موثوقًا وفاعلًا في المجتمع الدولي، حيث تميزت بسياستها المتوازنة وجهودها في دعم السلام والاستقرار الإقليمي. ويأتي فوز باكو باستضافة الدورة التاسعة والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP29) تأكيدًا على مكانة أذربيجان الدولية ودورها المتنامي في القضايا العالمية، وخاصة في مجال العمل المناخي. واختتم مؤتمر المناخ باتفاق يدعو الدول المتقدمة إلى تقديم 300 مليار دولار سنويًا للدول النامية بحلول عام 2035 للحد بشكل كبير من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري وذلك لحماية الأرواح وسبل العيش من التأثيرات المتفاقمة لتغير المناخ.
كما لا ننسى أن أذربيجان باعتبارها تاريخياً جزءاً من العالم الإسلامي، وشريكاً في التراث التقدمي والقيم الروحية للحضارة الإسلامية، لا تدخر جهداً في سبيل تعزيز العمل المشترك لأعضاء دول منظمة التعاون الإسلامي لتدعيم الحوار العالمي والتعاون من أجل سيادة التسامح والسلم والتفاهم الأفضل بين البلدان والثقافات والحضارات، والقضاء على عناصر «الإسلام فوبيا».
وعلى ضوء التغيرات الجارية في المنطقة، فإن أواصر العلاقات التاريخية مع العالم العربي الإسلامي والتي تتمتع بطبيعة الحال بالأولوية في إطار السياسة الخارجية لأذربيجان، تفتح أمامنا فرصاً جديدة لتعزيز آليات الشراكة القوية مع بلدان المنطقة، ومع المملكة العربية السعودية الشقيقة على وجه الخصوص.
إن العلاقات السعودية - الأذربيجانية في تطور مستمر؛ وهذا يبعث على الرضا والطمأنينة بين البلدين، ويعزز العمل المشترك لتطوير هذه العلاقة يومًا بعد يوم. وتجدر الإشارة هنا إلى الموقف الأخوي للمملكة والتأييد الدائم لقضية جمهورية أذربيجان العادلة في إطار منظمة الأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الإسلامي، وباقي المنظمات الدولية.
وفي إطار العلاقات الثنائية تم مؤخراً زيارة وزير الخارجية لجمهورية أذربيجان السيد جيهون بايراموف إلى المملكة العربية السعودية بتاريخ 26 فبراير عام 2025 وتقابل مع سمو الأمير فيصل بن فرحان.
وفي أبريل 2025، عُقد في مدينة الرياض الاجتماع الثامن للجنة الحكومية المشتركة بين المملكة العربية السعودية وجمهورية أذربيجان، برئاسة معالي وزير الاستثمار السعودي، المهندس خالد الفالح، ونائب رئيس مجلس الوزراء الأذربيجاني، السيد سمير شريفوف. شهد الاجتماع حضور عدد من المسؤولين من الجانبين، وتم خلاله مناقشة سبل تعزيز التعاون الثنائي في مجالات الاقتصاد، والتجارة، والطاقة، والموارد المائية، والزراعة، والنقل، والخدمات اللوجستية. كما تم توقيع عدداً من مذكرات التفاهم، بالإضافة إلى عقد الاجتماع السادس لمجلس الأعمال السعودي الأذربيجاني، الذي شكّل منصة لتعزيز التواصل والشراكات بين مجتمع الأعمال في البلدين.
وتُعد شركة «أكوا باور» السعودية من أبرز المستثمرين في قطاع الطاقة المتجددة في أذربيجان، حيث وقّعت عدة اتفاقيات مع وزارة الطاقة الأذربيجانية وشركة النفط الوطنية (سوكار) لتنفيذ مشاريع طاقة رياح برية وبحرية بقدرة إجمالية تصل إلى 2.5 غيغاواط، بالإضافة إلى تطوير نظام لتخزين الطاقة بالبطاريات.
شهد عام 2024 توقيع برنامج تنفيذي مشترك بين المملكة العربية السعودية وأذربيجان، على هامش مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP29) في باكو، لتعزيز التعاون في مجالات تطوير ونقل الطاقة المتجددة، وذلك بحضور وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان، ورئيس أذربيجان فخامة الرئيس إلهام علييف.
إن الاحتفال بمرور مائة وسبعة أعوام على تأسيس أول جمهورية ديمقراطية في الشرق الإسلامي يعنى أن أذربيجان كانت رائدة في تقديم التجربة الثرية التي جمعت بين إرث الحضارة الإسلامية من ناحية، والعصرنة من ناحية أخرى.
** **
- سفير جمهورية أذربيجان بالرياض