د. غالب محمد طه
في بداية شهر ذي الحجة من كل عام، تنتبه القلوب الغافلة وتصوب الأبصار نحو تلك البقعة الطاهرة في الأرض المباركة.
الفجر وليالي العشر، أفضل الليالي على الإطلاق، تهب معها نفحات من الرحمة والخير.
في كل عام، يزداد الشوق، ويتضاعف العدد، وتبدأ رحلة البحث عن رجاء وفرصة، لزيارة خير البقاع حجا ونسكا وعبادة.
وفي كل موسم حج، يتجدد الحنين، ونستحضر أنفسنا وكأننا بين من شهدوا تلك الخطبة الخالدة في عرفات، حيث ودّع رسول الرحمة الأمة بعد أن بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة.
هل تأذن لي يا رسول الله أن أخاطبك، وأن أنقل لك ما يحدث في الأرض التي وقفت عليها منذ أكثر من أربعة عشر قرناً؟ وهل أجرؤ على ذلك؟
لقد رأيت الحجيج يأتون من كل فجّ عميق، يحملهم الشوق ويهزّهم، تغمرهم الدهشة وترهقهم الرهبة، فيتجلّى لهم البيت الحرام بشموخه وقدسيته، فتسيل الدموع وتغسل الأفئدة.
جموعٌ لا تُحصى، يأتون على طائرات بلا إبل ولا وعثاء سفر، لكنهم يحملون الشوق ذاته.
يسيرون على أرصفة ممهّدة، في ظلّ خيام مبردة، وتحت لوحات إلكترونية تُرشدهم بلغات عدة.
لقد تبدّل الحال يا رسول الله.
المناسك التي كانت شاقة أصبحت ميسّرة، والرحلة التي كانت محفوفة بالعناء باتت محاطة بالرعاية والرحمة.
الجهود التي بُذلت، وما تزال تُبذل، جعلت من الحج تجربة روحانية متكاملة، تجسّد وصيتك الخالدة:
(خذوا عني مناسككم).
الكعبة لا تزال شامخة كما تركتها، توسعت ساحاتها، وأضحى الطواف أكثر يسرًا.
رأيتهم يتبعون خُطاك، وإن لم يروك، يمشون حيث مشيت، ويهتفون كما هتفت:
(لبيك اللهم لبيك).
ماء زمزم لا يزال يُروي، لكنه يُضخ عبر قنوات، ويُقدَّم مبردًا في عبوات صغيرة، وما زالوا يشربونه بنيّة الشفاء، كما علّمتنا.
هناك مستشفيات مجهزة، وظلال تمتد فوق الرؤوس، ومسارات مطاطية تخفف تعب الأقدام، ونظام دقيق ينظم حركة الحجيج بلا تزاحم أو تأخير.
سخر الله تعالى فرقًا مخلصة تخطط بعقول ساهرة: جنود ومتطوعون، مهندسون ومنظمون، كلهم يعملون وكأنهم ينفّذون وصيتك: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
حتى الذكاء الاصطناعي يا رسول الله، جُند لخدمة ضيوف الرحمن؛ يرشدهم، يحفظ أمنهم، ويعينهم على أداء نسكهم بطمأنينة.
وكأن الأمة فهمت أن تيسير العبادة هو من أعظم صور العبادة.
يرجمون الجمرات كما رميت، لكن من طوابق متعددة وبحصى معقّمة، ويُرتبهم نظام محكم، يمنع التزاحم والاختناق.
وما زالوا، كما كنت تفعل، يرفعون أيديهم في عرفة، وينادون ربهم، بنفس الرجاء ونفس الدموع.
منهم من لم يعرف العربية لكنه عرفك، ومنهم من دخل الإسلام حديثًا لكنه تعلق بك، ومنهم من وُلد مسلمًا لكن الحج أعاده إلى الإيمان من جديد.
رأيت في أعينهم جميعًا شيئًا من نورك وذكراك. يا رسول الله.
الجنود هناك يبتسمون للحجيج، يسقونهم، ويدعون لهم.
لم يعد الناس يتوهون، فالخرائط في أيديهم، والمعلومات في أجهزتهم، والتنظيم دقيق لا يعرف الفوضى.
كأن الله أكرم ضيوفه بكرم مضاعف، ليبقى هذا الركن حيًّا، ميسورًا، شامخًا، كما أردت يوم قلت:
(خذوا عني مناسككم).
يا رسول الله،
لقد تطورت أمتك، وارتقت في شؤون التنظيم والخدمة، حتى بات أداء المناسك ميسورًا، والسفر إلى البيت الحرام رحلة تفيض بالسكينة لا عناء فيها ولا رهق.
لم تعد المشقة في الطريق، ولا التيه في الزحام، ولا الخوف من الفقد أو الاضطراب.
باتت الطائرات تسابق السحاب، والخرائط الرقمية ترشد الحائر، والتطبيقات تُترجم وتنظم وتنبه، كأنها خادمة لروح الحاج لا بديل عنها.
خلف هذه السهولة عقلٌ يعمل، وسهرٌ لا يُرى، ورؤية إنسانية متقدمة جعلت من خدمة ضيوف الرحمن شرفًا يمارس بإتقان يشبه العبادة.
كأن أمتك يا رسول الله قد وعت وصيتك، فجَمعت بين الهدي النبوي، وتسخير الأدوات الحديثة، لتجعل من النسك تجربة روحانية خالصة، يعلو فيها الإيمان، ويتراجع فيها كل ما يُتعب الجسد ويشوش القلب.
قلوبنا معلقة بذلك البيت الذي رفعه إبراهيم وباركه رب العالمين.
كلنا نشتاق، وكلنا نرجو، ولو فتحت السبل ولم تُقيدها أنظمة أو أعداد، لفاضت أرض مكة بالبشر، وازدحمت السماء بالدعوات.
يا رسول الله،
لم أقف في عرفة، ولم أطف بعد، لكنني رأيت ما يجري هناك، فذكرتك.
دعوت أن أكون من الحجاج يومًا، لا لأُكمل أركان ديني فقط، بل لأقف حيث وقفت، وأقول ما قلت، وأبلغك سلامي من قلب عرفات.
يا راحلين إلى منى بقياد
هيجتم يوم الرحيل فؤادي
سرتم وسار دليلكم يا وحشتي
الشوق أقلقني وصوت الحادي
سلامٌ عليك، ما دام الحجيج يلبّون، وما دام الناس يطوفون، وما دامت مكة مأوى للأمان والحنين.
لم نرك، لكننا نحبك.
ولم نحج بعد، لكننا نشتاق كما لو كنا هناك.
لَبَّيْكَ اللّهُمَّ لَبَّيْكَ
لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ
إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ
لَا شَرِيكَ لَكَ