ناصر زيدان التميمي
في تقويم السماء، هناك يوم لا يشبهه يوم، تُطوى فيه صحائف الغفلة وتُسطّر فيه فرص النجاة، وتهطل فيه رحمات لا عدد لها، يوم إذا أقبل خفقت له القلوب، وانهمرت له العيون، وارتجفت له الأرواح. إنه يوم عرفة، يوم لا تملك فيه إلا أن تصمت أمام هيبته، ثم تبكي.في ذلك اليوم تصعد الأرض إلى السماء، تتعرّى الأرواح من أقنعتها، ويقف الإنسان وجهًا لوجه أمام خالقه، لا يحمل شيئًا سوى قلب مثقوب بالتقصير وكفّين مبللتين برجاء الغفران. في صعيد عرفات، يُسقط الناس عن أنفسهم أسماءهم ومناصبهم وأوطانهم، ولا يبقى إلا لقب واحد يليق بالجميع: عبدٌ لله. تلك الجبال تشهد، وتلك الرمال تحفظ الدعاء، وتلك السماء المفتوحة تنتظر رجفة صوتك وصدق نيتك، فهنا لا تُقاس القربى بكثرة الكلمات، بل بخفقة قلب واحدة تقول: «يا رب، أنا هنا».
وما أجمل أن يكون الله هو الذي يُنادي، هو الذي يقترب، هو الذي يُباهي بك الملائكة ويقول: «ما أراد هؤلاء؟»، تخيّل أن يُسأل عنك هذا السؤال في السماء، أن تكون أنت، بصوتك المرتجف ودمعتك الخفية وذنوبك التي تنهشك، سببًا في أن يقول الله: «أُشهدكم أني قد غفرت لهم».
إنه يوم لا تتكرر فيه الفرص فقط، بل تُخلق فيه مصائر جديدة. إن كنت ممن حجّ ووقف في عرفات، فاحمد الله على نعمة الوقوف في الميدان المقدّس، وإن لم تُكتب لك الرحلة، فاعلم أن الرحمة أوسع من المسافات، وأن يوم عرفة ليس حكرًا على من حضر بجسده، بل لمن وقف بقلبه، وسجد بروحه، وصام بصدق.
في الحديث الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده»، سنتان من الذنوب تُمحى بيوم. أيُّ بحر هذا الذي يُغسل فيه عامان من التقصير بقطرة صيام واحدة؟! ليس هذا فحسب، بل هو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتمّ به النعمة، ورضي به الإسلام دينًا، يا له من شرف أن يكون يومًا كهذا محفورًا في ذاكرة الأمة، معلنًا عن بلوغ الرسالة كمالها، وكأن عرفة خُلق ليكون خاتمة المراحل وبداية النقاء.
في يوم عرفة لا تحتاج كثيرًا من الكلمات، يكفي أن تُتمتم بينك وبين الله: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»، فهذه الكلمات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، هي خير ما قاله هو والنبيون من قبله، هي خريطة النجاة وسط عواصف الحياة.
يوم عرفة ليس حدثًا في الروزنامة، بل موعد سنوي مع الرحمة، موعد من لا حيلة له إلا الدعاء، ولا زاد له إلا الرجاء، فلا تجعل هذا اليوم يمر من حياتك مرورًا عابرًا، قف، تأمل، توجّه لله بكل ما تبقى فيك من صدق، ففي لحظة واحدة من يوم عرفة، قد تخرج من قائمة الغافلين إلى قائمة المقبولين، من النسيان إلى العتق، ومن التيه إلى الثبات، ولا تسأل بعدها: ماذا حدث؟ فالله إذا فتح لك باب الرحمة، أغلق عنك أبواب الحزن كلها.