د. عبدالحق عزوزي
الحضارة ذات طابع مادي، أو هي تتصل بالماديات التي تتواصل وتتعاقب بعفوية وتلقائية من بلد لآخر مع توالي العصور، مما تكاد به أن تكون واحدة؛ في حين تعتبر الثقافة أحد مقومات الهوية بالنسبة لأي مجتمع؛ وهي تتشكل من المكونات الروحية والفكرية والأدبية والفنية التي تختلف من كيان لآخر، علماً بأن هذا الكيان قد يكبر أو يصغر تبعاً لمدى اتساع الذات وما يكون فيها من تعدد وتنوع.
فكل حضارة معينة تعكس إذن المعتقدات والمبادئ والقيم التي تنبثق من روح الشعوب وتعبر عن روح الأمة التي تنشئها، فلا يظنن ظان أنه يمكن لحضارة معينة أن تولد من فراغ. وتتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، فهي بذلك نظام اجتماعي معين معقد ومترابط تحكم الماضي بالحاضر وتضم الفنون والآداب والمعتقدات والمعرفة والعادات والتقاليد وكل القدرات التي يتشبع بها الإنسان بكونه عضوا في المجتمع.
والحضارة هي استمرارية تاريخية يتداخل فيها الاقتصادي والجغرافي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي والثقافي والعلمي. وأقد أجاد العديد من المختصين في إعطاء تعاريف متميزة للحضارة، فهي: «الزائد على الضرورة من العمران» (ابن خلدون) و»لكل حضارة دستور أخلاقي، يتجلى في العقيدة وقوة النفس» (أوزولد شبنقلر) و»هي وحدة تاريخية (...) والاستجابة للتحديات عند الإنسان، فردا أو مجتمعا هي سبب نشوء الحضارة» (آرنولد توينبي).
أما الثقافة فهي تشمل الأفكار واللغة والعادات والتقنيات والأعمال الفنية والأدوات، ويكون استعمالها لصيقا بالبشر الذي يتوفر على القدرة العقلية والتفكير المجرد، لذلك عرفها بعضهم أنها «خاص بالإنسان المفكر إضافة إلى أشياء مادية يستعملها بوصفها جزءا لا يتجزأ من هذا السلوك»، ولا يمكن حصر الثقافة في تعريف معين، فقد أحصى كروبر وكلوكهوهن عالما الأنثروبولوجيا المشهورين، أكثر من 160 تعريفا للثقافة منها أنها «الأفكار الذهنية» و»البناء المنطقي» و»الخيال الإحصائي» و»السلوك المتعلم» و»آلية الدفاع النفسي» و»التجريد انطلاقا من سلوك».
ثم إننا على نهج العلامة المغربي محمد الكتاني عندما نعتبر التاريخ بصفة عامّة هو مرجع الفهم لروح الثقافة التي أنتجها تاريخ أيّ أمّة أو شعب فإنّما نتجاوز الدلالة الاصطلاحية للتاريخ، أي الوقائع والأحداث المتعاقبة والمترابطة التي تطفو على سطح التاريخ، ولا نستحضر أساساً إلا ما يعدّ سببا لتلك الأحداث، وهو الأفكار والقيم المحرّكة للسيرورة التاريخية.
وفي هذا السياق توقفنا المقارنة بين الثقافات والحضارات غالباً على وجود توافقات فيما بينها، بل والكشف عن مظاهر تأثير بعضها في البعض أو تأثُرها، وهو ما يعبّر عنه بالمثاقفة. إذ لا توجد ثقافة لم تتأثر عبر تاريخها بغيرها. لذلك فإنّناّ نلاحظ أنّ في كلّ ثقافة قدراً من معطيات التجارب العقلية، المتعلّقة بالفلسفات وبالعلوم، كما أنّ فيها قدراً من معطيات التجارب الوِجدانية والنزوعات الذاتية، والمعتقدات الدينية. ولمّا كانت التجارب العقلية تكتسي في الغالب طابعاً موضوعياً فإنّها تُعدّ مصدر توافق والتقاء بين شتّى الثقافات المختلفة، كالثقافة الإسلامية التي التقت بالثقافة اليونانية وبالثقافة الفارسية في حقبة من التاريخ، وتأثّرت بهما في موضوعات العلم والفلسفة والنظم الإدارية. كما أثّرت هذه الثقافة بدورها في الثقافة الأوروبية في بداية عصر النهضة في نفس المجالات. وفي ضوء هذا المُعطى التاريخي يمكن اعتبار الخصوصية الثقافية الوطنية بالنسبة للعديد من الدول راجعة إلى ما هو وِجدانيّ وذاتيّ واعتقاديّ ولغويّ.
وعموماً، مهما كانت نوعية الحضارة، إفريقية كانت أو إسلامية أو غريبة أو غير ذلك فهي نتاج تلاقح عدة شعوب وأعراق شتى، تنتمي إلى ثقافات متعددة تصب جميعها في اتجاه تتشكل منه الحضارة، فهي إذن «لا ترتبط بجنس من الأجناس، ولا تنتمي إلى شعب من الشعوب، على الرغم من أن الحضارة قد تنسب إلى أمة من الأمم أو إلى منطقة جغرافية من مناطق العالم على سبيل التعريف ليس إلا، بخلاف الثقافة التي هي رمز للهوية، وعنوان على الذاتية، وتعبير عن الخصوصيات التي تتميز بها أمة من الأمم، أو يتفرد بها شعب من الشعوب»، فالحضارة هي وعاء لثقافات متنوعة تعددت أصولها ومشاربها ومصادرها، فامتزجت وتلاقحت فشكلت خصائص الحضارة التي تعبر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها.