د. إبراهيم بن جلال فضلون
لم تنسه.. مدائح الأدب العربي وغرر شعره، فللعيد خواطر تقترب مع اقترابه، وكلنا يلهثُ باحثاً عن وسائل وطُرق التخطيط والتحضير للاحتفاء بقدومه السعيد، والاستعداد له بشكل مثالي.. ففي العيد تُعبِّر أبداننا عن حال أرواحنا، ليستأصل الحزن والحقد والغل والكراهية وقطع الأرحام وغير ذلك مما نهانا عنه الإسلام، لأمرٍ جللٍ يجعل شعورَنا ببهجة العيد حاضرة، فالعيد فرصة لمضاعفة الأجور وبراً بالوالدين، ولقاء الأقارب والأصدقاء والأحبة بالمعنى الجميل، الذي ينساب عطرًا فيعطر القلوب ويقوي روابط الحب والتآلف..
جد روحك.. وفي كل مرة نكتشف بركات ديننا عندما يحل العيد ونسمع تكبيراته منذ بداية العشر من ذي الحجة لتجد رُوحك - رغم ما فيها من أسى - تنطلق لا يمنعها شيء من أن ترفرف سرورًا، ولساني مهللاً بالتكبيرات الفرحة هنا وهناك، وكأن الكونَ كله يتجاوب معها مكبِّرًا ذاكرًا لله وشاكرًا، فيأتي العيد بأضحياته وخيراته، تُداهم هُموم وأحزان الفقير؛ محولاً إياه لضحكة ذات سرور، فبين أحضان الفقر والحرمان يتلهف للفرح، وحوله شبعى لا يأبهون لحاله، فيمر العيد كأي يوم عابر؛ وكأنه قد زارهُ فقط ليُذكره بفقره وقلة حيلته؛ وهناك اليتيم أو الغريب، ومن يتفطر كمدا، لا يجدوا ما يسد حاجتهم ولو ببسمة، اللهم إلا من ذوي القلوب الخيرة ممن يعطون بلا حساب وهم بوطننا ولله الحمد كُثُر، وهناك من هُم أحوج ونحنُ نعلم، أهل غزة الأوفياء.. وكأننا نقول تضامناً معهم «لا للعيد»، أيها العيد، لا تقترِبْ، فلا مكان لك مع بلوانا»!
وبشر الصابرين.. فلله الحمد على ما أعطانا من نعمة الإسلام دينِ الفطرة، الذي أمرنا بالصبر وبشرنا بعواقبه بقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
فإذا ارتسمت هذه المشاعرُ على الجوارح - رغم المصاب - وترجمت إلى دعم ووقوف معهم والتبرع لهم أو يكفي الدعاء الخالص، وابتسامة ومصافحة وتهنئة وزيارة لأرحامنا وتوسعة على أهلنا بفلسطين ومسلمي العالم وديارنا العربي.
لكنّني لا أدري هل أحزنُ أم أفرحُ لهذا العيد بدونهم؟ أم أقف بين الشعورَيْن؟
شكوى إنسان.. لا يهمّ.. فلا يخلو العيد من بعض منغصات الحياة، لاسيما شاعر يُشارك معاناته ويلامس صوره وأحاسيسه، ومن أشهرها (دالية المُتنبي) في وصف حاله بمصر والتي يقول في مطلعها:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ جِئْتَ يا عيدُ
بما مضى أم بأمْرٍ فيكَ تجديدُ
أمّا الأحِبة فالبيداءُ دونَهم
فليت دونك بيداً دونهم بيدُ
فما يهمّ هو حقّي في أن أشهدَ على أعيادي التي عشتُها طفلًا، وعليّ أن أختمِ على أحزاني بالشمع الأحمر، ولأفرح قليلاً كما أمرنا النبي الكريم، فالعيدَ - كما يقولون - فرحة وروحُه الأطفال، ورمزُه السعيد، لكني أتوقف عند شكوى الشاعر العراقي السيد مصطفى جمال الدين أيام صباه قائلاً:
هذا هو العيدُ، أينَ الأهلُ والفرحُ
ضاقتْ بهِ النَّفْسُ، أم أوْدَتْ به القُرَحُ؟!
وأينَ أحبابُنا ضاعتْ ملامحُهم
مَنْ في البلاد بقي منهم، ومن نزحوا؟!
أهل الخير.. لقد أنستنا الأيام بمشاغلها هؤلاء البشر، كما أن بيننا مقيمين وكثيرين، يمر عليهم نفس اليوم بلا أهل ولا وطن، وكثير منا لديه عُمال وموظفون لا يسألون عنهم، اللهم إلا من رحم ربي، فهل نتذكرهم بيوم كهذا، وهل يمكن أن يرسم كل منا الفرحة أمامه ولو بتيسير أو توفير طريقة لتواصله بأهله في يوم كهذا، فما رأيك أخي أن تبادر وترضي خاطره وخاطر أهله وإن لم يكن له أهل فكُن أنت الأهل والسند، فكيف يطيب للإنسانِ أن يفرح ويمرح؛ وهناك من حوله مكلومون بمشاهد الجوع والحاجة تنهش أجسادهم؟. وكيف يسمح لك ضميرك توفير كل ما لذ وطاب وفعل الكثير من سلبيات العيد والسلوكيات الأخرى، وهناك اُسر كاملة بأطفالها خلف الجدران لا تراها وقد تقع أنظار أقرانهم على أرديتهم البالية الممزقة، ولا يرق قلبك فتساعدهم. فاسألهم؛ ولا تغفل عن ذلك؛ أيقظ ضميرك واسأل؛ وتفقد كل من شق عليه الزمان، وعلم أولادك حُب الخير في هذه الأيام المباركة، فهناك كثيرون ممّن وقعوا بين هذه المشاعر المُضادّة في العيد، فزر وصل الأرحام، وعاود المرضى، وهناك من هو خلف قضبان السجون بسبب الديون وغيرها مُعيدين بعيداً عن أهاليهم، وهناك المتنازعون من الأقارب، وذوي الأرحام، والأصدقاء، ممن يمُر عليهم يوم العيد وكأنه مرحلة زمنية عابرة لا مرحلة نوعية تتغيّر فيها الحياة للأفضل والأسعد.
ختاماً:
ليس العيد إلا تعليم الأُمة كيف تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهله دار واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي، وتظهر فضيلة الإخلاص مستعلنة للجميع، ويُهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة؛ وكأنما العيد هو إطلاق روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها.. فعوَّدَ يعوِّد، تعويدًا، فهو مُعوِّد، حافظ من الله لنا ولأوطاننا.