جانبي فروقة
يشهد العالم اليوم تحولات جيوسياسية متسارعة، ويعود سباق التسلح ليحتل مركز الصدارة في موازين القوى الدولية، والحرب التجارية المستعرة والدائرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين تستند على حائط القدرات العسكرية المتنامية للدولتين فبينما تستعرض الولايات المتحدة الأمريكية قوتها التاريخية في الدفاع والردع، وطرح الرئيس الأمريكي ترامب مؤخرا مشروع «القبة الذهبية» «Golden Dome» لحماية سماء أمريكا بميزانية تصل إلى 175 مليار دولار تنهض الصين بثقة مستندة إلى اقتصاد صاعد وقاعدة صناعية تشكل 30 % من القدرة الصناعية العالمية وتكنولوجيا متقدمة لتقدم نموذجا مختلفا من الصعود والتنافس العسكري بين القوتين النوويتين، وهذا التنافس لا يعكس فقط نزاعا تقليديا على النفوذ بل يجسد إعادة رسم النفوذ لخريطة العالم المستقبلية.
الكم لا يعكس كل شيء؛ فالفجوة الضخمة والتفوق في الميزانية العسكرية الأمريكية التي تبلغ 997 مليار دولار (وتشكل 40 % من الإنفاق العسكري العالمي) وتصل إلى ثلاثة أضعاف ميزانية الدفاع الصينية المقدرة بـ314 مليار دولار لا تعني التفوق العسكري المطلق حيث إن الواقع أكثر تعقيدا، فالأرقام المجردة لا تعكس القدرة الفعلية والكفاءة الاستراتيجية، فرغم أن الإنفاق العسكري الصيني أقل لكنه أكثر تركيزا على التطور الذكي والتصنيع المحلي منخفض التكلفة، والكفاءة الاقتصادية في الإنفاق العسكري تجعل الصين تدير إنفاقها العسكري بفاعلية عالية مدعومة باقتصاد صناعي ضخم وأيد عاملة منخفضة التكلفة؛ فمثلا يبلغ راتب مهندس عسكري صيني 15 ألف دولار سنويا بينما يكلف نظيره في أمريكا حوالي 90 ألف دولار، وكذلك تكلفة تصنيع دبابة أو طائرة دون طيار في الصين أقل بكثير بسبب الاعتماد على الموارد المحلية وسلاسل التوريد المحلية وتقييم، وفرق السعر في اليوان مقابل الدولار يعزز القوة الشرائية الصينية لذلك يمكن للصين أن تحقق ناتجا عسكريا مشابها أو حتى متفوقا بأقل من نصف التكلفة الأمريكية.
والفجوة النووية الكبيرة بين الترسانة الأمريكية والصينية لا تضمن الحسم أبدا أيضا فرغم امتلاك أمريكا إلى ما يقارب من 5200 رأس نووي مقارنة ب 500 رأس نووي للصين فإن الاستخدام الفعلي للأسلحة النووية ليس مرجحا في السيناريوهات الواقعية وتبرز أهميتها في الردع والتفاوض السياسي ويكفي الصين أن تمتلك قدرة الضربة الثانية أي الرد القوي بعد أول هجوم أمريكي نووي محتمل لكي تحقق توازنا ردعيا فعالا.
تمتد الحدود الجديدة لسباق التسلح اليوم من الأرض إلى المدارات حيث أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية «قوة الفضاء» «Space Force» وخصصت ميزانية تصل إلى 29 مليار دولار لتطوير أنظمة دفاعية وهجومية تعتمد على الأقمار الصناعية والصواريخ فرط صوتية والأسلحة المضادة للأقمار، كما تعزز الصين قدراتها العسكرية الفضائية عبر برنامج عسكري طموح.
ويظهر اليوم في معادلة التسلح سلاح المستقبل الحاسم وهو الذكاء الاصطناعي وتراهن أمريكا على الذكاء الاصطناعي لتعزيز تفوقها الردعي وأنظمة التحكم بالدرونز والقيادة الذكية وتحليل البيانات العسكرية والتوجيه الذاتي للصواريخ حيث تطور كلها في مراكز مثل (DARPA (Defense Advanced Research Projects Agency (التي أنشئت في عام 1958 م كرد على المشروع السوفيتي آنذاك سبوتتك وقادت إلى تطوير الانترنت ونظام ال GPS وغيرها) ووكالة الأمن القومي، أما الصين فقد أدرجت الذكاء الاصطناعي كأولية وطنية في استراتيجيتها الدفاعية لتطوير تطبيقات المراقبة الذكية إلى النظم الصاروخية المعتمدة على خوارزميات التعلم الآلي حيث إن الصين تسير نحو أتمتة الجيش.
انتصرت سمعة السلاح الصيني في الاشتباك الذي حدث مؤخرا بين باكستان والهند وأثار ذلك قلق الغرب فقد استطاع سلاح الجو الباكستاني بطائرات عسكرية صينية من طراز تشنغدوجيه 10 من اسقاط طائرات حربية هندية من نوع رافال فرنسية وميك 29 وسو30 روسية. وأدى ذلك إلى رفع أسهم الشركة الصينية المصنعة للطائرة الحربية وكما ظهرت فاعلية الصاروخ الصيني جو-جو PL15 والذي يعد منافسا للصاروخ الأمريكي AIM 120 امرام.
في ميدان الذكاء الاصطناعي، تكررت المفارقة ذاتها التي نراها في التسلح وظهر الفرق جليا بين «القوة الخام» و»الكفاءة التشغيلية». فعلى الرغم من أن نموذج GPT-4o الأمريكي، الذي تطوره شركة OpenAI، يستند إلى بنية ضخمة تعتمد على ما يقارب 405 مليار توكين، إلا أن النموذج الصيني المعروف باسم «شات بيت» (ChatBIT)، والذي يستند إلى LLaMA 2 بسعة لا تتجاوز 13 مليار توكين والذي تمكن العلماء الصينيون من تطويره وهو نظام ذكاء اصطناعي للاستخدامات العسكرية مبني على نموذج «لاما 2» مفتوح المصدر الذي طورته شركة ميتا (Meta) الأمريكية حيث استطاع نموذج شات بيت من تحقيق دقة إجابات تقارب90 % في اختبارات معيارية، وهو أداء منافس ومثير للدهشة بالنظر إلى الفرق الهائل في البنية التحتية.
هذه المقارنة بين النماذج تُماثل إلى حد كبير الفارق بين الإنفاق العسكري الأمريكي الهائل، والإنفاق الصيني المتواضع نسبياً، والذي يُدار بكفاءة تجعل نتائجه أقرب مما توحي به الأرقام. فكما تُحقق الصين نتائج عسكرية واقتصادية مؤثرة بميزانيات أقل، يُظهر «شات بيت» أن الذكاء الاصطناعي لا يُقاس فقط بعدد التوكينات، بل بكفاءة تدريب النماذج، وتكييفها مع الاستخدام العملي.
لازالت أمريكا اليوم تتفوق تقنيا لكن الصين تراكم الزخم في البحث والتطوير وتغلق الفجوة العسكرية عاما بعد عام وهي تمضي في بناء منظومتها العسكرية الفعالة المدعومة باقتصاد ديناميكي وتكنولوجيا محلية متطورة، واليوم نحن أمام توازن ردعي جديد لا يعتمد على الصواريخ وحجم الأساطيل والإنفاق العسكري بل على قدرة كل دولة على التكيف مع متغيرات العصر: الذكاء الاصطناعي والفضاء والحرب السيبرانية، ويبدو أن الحروب القادمة لن تحسم فقط في ميادين القتال وإنما في غرف الخوارزميات ومراكز البيانات.
***
- كاتب أمريكي