د. ناهد باشطح
فاصلة:
«السفر لا يغيرنا، بل يكشف لنا من نحن حقًا»
- باولو كويلو: (من رواية الخيميائي)-
عشت في مانشستر لسنوات وقت دراستي للدكتوراه، واليوم أعود لأعيشها بشكل مختلف، لست تلك الطالبة التي تحمل فوق أكتافها مسؤولية بناتها ومسؤوليتها كطالبة تنجز مشروعاً أكاديمياً مهماً.
اليوم، لا أعاني من صراع الأدوار الاجتماعية، بل أشعر بأن مساحتي في مانشستر تتسع لممارسة أدوار جديدة مختلفة لا صراع فيها، بل تكامل.
لم تكن مانشستر مجرّد مدينة جديدة على خارطة أيامي، بل كانت مرآة وضعتها الحياة أمامي، لأتأمل فيها وجهي كما لم أره من قبل.
عندما عدت إلى مانشستر بعد سنوات لم أستغربها رغم أنها تغيرت كثيراً وهي لم تستغربني كذلك رغم أنني تغيرت كثيراً، ليس لأني أحببتها بل لأنني قبلتها بدون شروط مكاناً وروحاً.
الغربة في نظري ليست وحشاً يغتال دفء الوطن وحضن الأهل والأصدقاء، بل هي رحلة عميقة لاكتشاف الذات.
حين وصلت مانشستر، شعرت بارتباك لم أستطع أن أضع له اسمًا، كنت أفتقد تفاصيل صغيرة مثل صوت الأذان، دفء التواصل الأسري في بلدي، حتى فوضى الالتزامات الاجتماعية التي كنت أظن أني أهرب منها كنت أفتقدها. لكن الغربة لم تكن مجرد فقد، بل كانت إعادة للصوت الداخلي، للإيقاع، وللصمت.
كنت أخرج كل صباح، أستنشق بردًا لا أعرفه، لكنه يوقظني كأنني ولدت من جديد.
بدأت أمارس التأمل في الحدائق، أراقب الطيور، وأتعلم من الطبيعة درسًا مهمًا لم أتعلمه من قبل.
تعلمت أن الصمت في الغربة أصدق من كثير من الضجيج الذي اعتدت عليه، وصرت أمارس الصيام عن الكلام لأيام متتالية فأتعرف معنى الهدوء الداخلي.
وتأكدت أنني أستطيع أن أُعيد بناء علاقاتي، لا مع الآخرين فقط، بل مع ذاتي.
مانشستر لم تعطني فقط تجربة.. بل أعادتني إليّ
بالأمس قررت ان اكتشف منطقة دنزقيت Deansgate
اسم «Deansgate» مشتق من نهر «Dene» المفقود، و»gate» تعني «طريق» باللغة النوردية القديمة.
تعتبر دنزقيت من أقدم الطرق في مانشستر، و يعود تاريخها إلى العصر الروماني.
لابد أن عينيك تلاحظان وأنت تسير في شوارع دنزقيت أنها مزيج من المباني التاريخية والمعمار الحديث، توجد بها مكتبة جون رايلاندز (John Rylands Library) هذه المكتبة الفريدة من نوعها فتصميمها نيو-قوطي، أي أسلوب معماري جديد يحاكي القوطية الجديدة التي كانت سائدة في أوروبا في العصور الوسطى (القرن 12-16) وتحتوي على مجموعات نادرة من المخطوطات والكتب. وكذلك مكتبة دينزغيت الحرة وهي مبنى تاريخي يعود للقرن التاسع عشر، يُستخدم حاليًا كمركز للغة والثقافة الإسبانية.
وبالرغم من المباني الاثرية توجد مساحة كبرى للمعمار الحديث حيث الابراج وناطحات السحاب.. يوجد برج بيثام (Beetham Tower) وهو ناطحة سحاب بارتفاع 169 مترًا، ويضم فندق هيلتون، وكذلك ميدان دينزغيت (Deansgate Square) الذي يتضمن مجمعا سكنيا حديثا مزدحما بالطلاب والسياح، يضم أربعة أبراج شاهقة، من بينها أطول مبنى سكني في مانشستر بارتفاع 201 متر.
وهناك محطة قطار دينزقيت ومحطة ترام دينزقيت- كاسلفيلد، تتميز المنطقة بتنوع سكاني وثقافي كبير وخدمات متنوعة وفاخرة
اتخذت مقهى صغيرا في أحد شوارعها وجلست أكتب في دفتري:
«أنا لا أهرب من وطني، بل أبحث عني في خارطة أكبر.»
وربما هذا هو سرّ السفر الحقيقي.. أن تُسافر لتعود - ولكن بنسخة أكثر هدوءًا، وصدقًا، وقربًا من ذاتك.
هذه ليست نهاية حكايتي مع مانشستر، بل بدايتها.