أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
وأعتقد أن معالي أخي الحبيب قد وضع في مؤلفه الموسوم «مستقبل اللغة العربية» النقاط على الحروف في هذا المجال اللغوي الوطني الذي ينظر للغة العربية على أنها أداة اقتصادية لها من التأثير والاعتبار ما للعملة الوطنية، منادياً معاليه في هذا الصدد بضرورة إلحاق شؤون اللغة العربية بوزارتي الاقتصاد والمالية أسوة ببعض دول العالم التي تبنت هذا الاتجاه الذي حقق لها بسببه فوائد اجتماعية واقتصادية وثقافية مهمة.
ولقد حظيت الدراسات الببليوجرافية بعناية معاليه ومنها على سبيل المثال لا الحصر: بواكير الطباعة والمطبوعات في بلاد الحرمين الشريفين، ومعجم مطبوعات التراث في المملكة العربية السعودية المكون من ثمانية مجلدات تشمل وصفاً دقيقاً لـ 2984 كتاباً من كتب التراث التي طُبعت في المملكة العربية السعودية منذ دخول الطباعة في مكة المكرمة سنة 1300هـ الموافق للعام 1883م حتى قبيل تأليف الكتاب عام 2013م. كما حظيت دراسات التراث وتحقيقه بعدد وفير من مؤلفاته ومنها كما أشرت آنفاً كتاب الأمثال لأبي فيد السدوسي: دراسة وتحقيق، والأعمش الظريف، وآثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومرافئ التراث: أبحاث ودراسات نقدية، وكتاب الأمثال لحمزة ابن الحسن الأصفهاني: تحقيق وتعليق، وحركة إحياء التراث: دراسة تاريخية تحليلية نقدية. كما تشمل مؤلفاته في التحقيق كتابَه القيم على آثار المحققين الذي يضم أبحاثاً في قضايا مهمة كإشكالية تخريج الشواهد غير المنسوبة في التراث العربي: كتاب الأمثال الصادرة عن بيوت الشعر مثالاً والببليوجرافيا التحليلية لكتب التراث العربي: معجم مطبوعات التراث أنموذجاً، إضافة إلى البحث القيم عن الدراسات العليا وتحقيق التراث في الجامعات السعودية. كما يشمل الكتاب دراساتٍ نقدية بعضها ذو طابع وصفي استقرائي يتناول بعض الموضوعات ذات العلاقة بحقل تحقيق النصوص، أما البعض الآخر منها فيتخذ طابع المراجعة والنقد العلمي الاستدلالي البحت التوجه لبعض ما حقق من كتب التراث أو جمع من نصوص كبعض الدواوين والأشعار وغير ذلك من الكتب ككتاب المآخذ على شرح أبي الطيب المتنبي لابن معقل الأزدي وأخبار أبي العيناء اليمامي للشيخ محمد بن ناصر العبودي ونظرات في كتاب معجم ما استعجم لأبي عبيد البكري تحقيق د. عبدالله بن يوسف الغنيم ود. عبد العزيز المانع.
ولعلي أختم هذه الإطلالة المتعلقة في كلمتي بسمت معاليه العلمي بين الدراسات اللغوية وتحقيق التراث بكتابه القيم الموسوم «حمد الجاسر والتراث: قراءات في فكره ومنهجه». ويعد هذا الكتاب سفراً موسوعياً مهماً من حيث شخصية الكتاب وموضوعه وبنيته المعرفية وتراكيبه المنطقية والمنهجية وغزارة المصادر والمعاجم الجغرافية والمظان التاريخية والأدبية التي عالجها، إضافة إلى ما امتاز به الكتاب من دقة التوثيق وصرامة التحقيق والنقد الموضوعي البناء. كما يعد هذا السفر الذي سطرته أناملُ معاليه الكريم بلغة عربية أنيقة وعقلية ناضجة مستنيرة ناقدة وفكر موضوعي ثاقب هادئ أنموذجاً صادقاً لقاعدة بيانات ببليوجرافية تراثية ثرية موثقة ومحققة بإتقان، عبر مختلف أساليب التحقيق والتحليل والتطبيق لنماذج القرائن الجائزة والمنهجيات الاستنباطية الاستقراء استدلالية ذات العلاقة تحديداً بتعيين المواقع الجغرافية، وتصحيح ما اعتراها من التصحيف والتحريف والخلط بين المواقع إضافة إلى التحقق من الأحداث التاريخية والنصوص الأدبية ذات العلاقة. واهتم معاليه في هذا الكتاب بثلاثة مجالات حيث ركز المجال الأول منها على جغرافية الجزيرة العربية، بينما ركز الثاني على تاريخ هذه الجزيرة، أما المجال الثالث فقد خصصه معاليه للأدب العربي القديم. وقد اُختُتِمَ هذا الكتاب ببحث ضاف عن منهج الجاسر في تحقيق النصوص. وقد ناقش أستاذي الفاضل في الباب الأول من هذا الكتاب عدة قضايا منهجية مهمة منها: تقويم المصادر الجغرافية القديمة، ومعالجة ما يسمى التصحيف الشكلي والتحريف الذي تعرضت له أسماء الأماكن في المصادر القديمة أو في ألسنة المعاصرين، إضافة إلى التصحيح الموضوعي، وتحديد المواقع الجغرافية. كما ناقش في هذا الباب الطريقة التي تبناها الشيخ حمد في تصحيحه لكثير من الأخطاء الواردة في كتب الأقدمين والمحدثين مع سرد لنماذج من ذلك التصحيح وخاصة في مجال التصحيف والتحريف والخلط بين مواقع الأماكن الجغرافية التي اعتمد الشيخ في تصحيحها على أساليب المقارنة بين النصوص الواردة في كتب الجغرافيين واللغويين وتغيرات استعمال الناس لمسميات تلك المواقع. كما شملت القضايا المطروحة في هذا الباب نقاشاً لعدد من الملاحظات حول كتابة الأسماء الجغرافية والإطناب والاضطراب في ترتيب المداخل والتقصير في إيراد المعلومات وتجزئتها وأنماط إحالتها. وناقش معاليه في هذا الباب نتائج رحلات اليخ الجاسر إلى مواقع شمال الجزيرة العربية وسراة غامد وزهران التي ربط فيها بين المكان وسكانه في القديم والحديث من ناحية وبين الآثار والتاريخ القديم والتراث الأدبي القديم. ويتضمن الباب الثاني من الكتاب حديثاً مستفيضاً عن المصادر التاريخية والتعريف بالمؤرخين، والبحوث والآراء والتصحيحات ذات العلاقة. كما اهتم الكتاب في بابه الثالث بـ (الأعمال الأدبية) التي ضمت قضايا عديدة أولها قضية جمع التراث الأدبي القديم، ونشر النصوص المخطوطة، والمستدركات التي تحوي جملة من استدراكات الشيخ حمد على بعض نصوص التراث ومنها استدراكاته - رحمه الله - على جملة من الدواوين.
واختتم معاليه هذا الكتاب بدراسة مستفيضة عن منهج الجاسر في تحقيق النصوص القديمة ونشرها. ويعد هذا الباب ثمرة دراسة متعمقة لجهود الشيخ حمد الجاسر، خلص فيه أستاذي الجليل إلى تصنيف موقف الجاسر من منهج تحقيق التراث. فللجاسر، حسب دراسات معاليه، منهج في التحقيق موافق في رأي أستاذي لما هو مشهور عند المحققين، فهو يرى أن الهدف من التحقيق هو إخراج العمل في صورة مطابقة لما وضعه المؤلف. وأوضح معالي د. الضبيب أن الجاسر يهتم لتجويد تحقيقه بجمع أكبر قدر من النسخ الخطية للكتاب المحقق، ولذا يعيب على من يعتمد في تحقيقه على نسخة واحدة. ولما كان هدف الجاسر إخراج الكتاب قريبًا من نسخة المؤلف تَخَفَّفَ - رحمه الله - من التعليق على النص فالغالب أن لا تعليقات ولا حواشٍ، ولكن قد نصادف تعليقات فيها إطناب وخاصة في كتب المواقع.
وأشار معاليه في نهاية كتابه إلى العناية الفائقة التي كان يوليها الشيخ حمد للمقدمات ودراسة الكتاب والفهارس والكشافات التي كان يلحقها - رحمه الله - بالكتب التي حققها.
وفي الختام أود الإشارة إلى أن دراساتِ معاليه اللغوية والنقدية وأبحاثه المتعلقة بالببليوجرافيا وتحقيق التراث تعد في رأيي منظوراً معرفياً تحولياً مفاهيمياً فريداً بامتياز، يرتقي باللغة العربية وتراثها العظيم من الدراسات التبجيلية المرسلة الأساليب واجترار التراث اللغوي القديم إلى دراسات تطبيقية مستنيرة لواقع اللغة العربية الفصحى في هذا العصر، وذلك للخروج منها بالتشخيص الأمثل لهذا الواقع وتعميق الوعي بأهمية هذه اللغة وتراثها المجيد واستشراف آفاقها المستقبلية المأمولة. ولذلك هيأ معاليه في هذا المنظور فرصاً رحبة لذلك الاستشراف وخاصة عبر تركيز معاليه في بعض دراساته على لغة الطفل العربي في عصر العولمة وعلاقة ذلك بأزمة الأمة ومصيرها اللغوي في ظل تحديات العصر للغة العربية وأنماط التبادل الثقافي المعاصر بيننا وبين غيرنا من الأمم.
لا شك أن هذا الجهد المستدام الذي بذله معاليه - أدام الله عزه - على مدى عقود ولا زال يبذله خدمة للعلم والمعرفة واللغة العربية وترسيخ هويتها اللغوية وتراثها المجيد، سيظل - بإذن الله - محفوظاً في طيات مؤلفاته ودراساته وتحقيقاته العلمية القيمة التي تُقَلِّبُ صفحاتِها أناملُ الأجيال أطيافاً في الزمان والمكان فخراً به واعتداداً بمنجزه العلمي الزاخر أمام إكبار المنصفين وجلال عدالة المحكمين.