د. إبراهيم بن جلال فضلون
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر
ضاع قوم ليس يدرون الخبر
هكذا ذكرني أمير الشعراء أحمد شوقي -رحمه الله- في إحدى قصائده الخالدة، عندما وقعت عيناي للوهلة الأولى على الشعار «الحاكي المحكي» بمعاني ظاهرة وخفية عدة لحج 20/41، وما يتضمنه معانيه من قُدسية وهيبة، مركزها بيت الله الحرام في منظر فني بديع، يعكس بعض ما تحمله المُناسبة العطرة من شعائر ومعالم وأهداف، فالحج لا مكان فيه إلا للدعوة إلى الله وحده بالتلبية «لبيك اللَّهم لبيك»، وكل ما تجاوزها باطل. فمن الحج إلى العالم، تفتح المملكة متشرفة كُل عام باستقبال ضيوف الرحمن، بإصرار لا يعرف الفتور في تقديم كُل ما يمتلك الوطن قيادة وشعباً، فهنيئاً لمن شارك بهذا الموقف الذي ليس له نظير في تاريخ الإنسانية، كونهُ خالدًا لشدة ما فيه من عبرة وعظة، بأحد أركان الإسلام (الركن الخامس) في أجواء إيمانية تحفها السكينة والأمان والراحة والاطمئنان..
إنه شرف كبير لا يمنحه الله إلا لمستحقه، ففي العصر الحديث، أصبحت إدارة الحشود في الحج أكثر تحديًا وأهمية لتتربع المملكة بقدوتها العالمية في إدارة عدد كبير من الحجاج وتنظيم تدفقهم بأمان ويسر عبر تقنيات حديثة وإستراتيجيات متطورة لتنظيم حركة الحشود والحفاظ على سلامة الحجاج وأمنهم وعمل كافة تدابير السيطرة على الحشود والحفاظ على النظام والتنظيم، ونشر الوعي والتوعية بأهمية الالتزام بالإجراءات الأمنية والصحية المعمول بها.. فلا حج بدون تصريح، ليكون الأمر أمرًا حاسمًا لنجاح الحج وسلامة الحجاج، وتعزِّز من قيمة الحج كشعيرة إسلامية مهمة وتعكس أهمية التكنولوجيا في تحسين جودة الحياة وتسهيل العبادة، وكأنها رسالة للعالم من أرض الحرمين، تعكس بصدق مقاصد الدين العظيمة، يُبرز فيها الدور الثقافي والحضاري والأصالة السعودية بالإنجازات والمشروعات الرائدة والتطورات المتلاحقة في توسيعات الحرمين الشريفين والمشاعر، ومبادرة طريق مكة، حيثُ سجّلت منظومة الحج والعمرة خلال مسيرة وطنية دامت لأكثر من 96 عامًا إنجازات ونقلات نوعية متعددة أسهمت في تسهيل إجراءات قدوم الحجاج والمعتمرين، ورفع جودة الخدمات، وإثراء التجربة الدينية والثقافية لضيوف الرحمن، وذلك بدعم متواصل من القيادة الرشيدة -أيَّدها الله-. بتفاعل عالمي إنساني وإيماني وفي عظمتها، التي وما زالت تُروى كقصة فريدة بشغف، يجعل عنوانها لصيقاً لرواياتهم «الأمن الإنساني في حج بيت الله»..
وهذا ما دونهُ «روبرت إيه ز فيرنا» من جامعة تكساس، في مقدمة كتاب «أفون نيل»، وتصوير «آن باركر»، وترجمة «حسن عبد ربه المصري»، بعنوان: «رسومات الحج: فن التعبير المصري عن الرحلة المقدسة» Hajj Paintinngs Folk Art of the Great Pilgrimage صدرت طبعته الأصلية عام 1995، يقول فيها: «لا بد أن نأخذ في الاعتبار من البداية أن رحلة الحج إلى مكة المكرمة تعد من أعظم التجارب في حياة المسلم؛ لأنها تعتبر إنجازاً لشعيرة تحض عليها آيات من القرآن الكريم، بشرط أن لا تترتب على القيام بها مصاعب أو مضار تنعكس سلباً على أسرة الفرد الذي عزم على القيام بها. لهذا يقوم معظم المسلمين برحلتهم هذه في أواخر سنوات عمرهم، عندما تكون ظروف الأسرة المالية قد أصبحت أكثر يُسراً واستقراراً وأمناً. وبالنسبة إلى السيدات عندما يكون الأولاد قد أضحوا أكثر استقلالاً في حياتهم عن أمهاتهم. وهنا يمكن القول إن رحلة الحج تمثِّل بالإضافة إلى أداء الواجب الديني نوعاً من الأبهة الاجتماعية. وتؤكد أن رب الأسرة قادرًا على تلبية الحاجات الأساسية لأسرته، أو أن هذا الشخص -بمعنى آخر- قد بلغ مرحلة من النجاح في حياته الشخصية تؤهله للقيام بواحدة من التكليفات التي فرضها الله عليه».
ويذكّرني هنا عندما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مكة المكرمة لم يسلب من يخدم بيت الله الحرام مفاتيحه، وقد قال ابن سعد في «الطبقات» عن ابن طلحة، قال: «كُنا نَفْتَحُ الْكَعْبَة فِي الْجاهلية يَوْمَ الاثنين وَالْخَمِيسِ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ- يَوْماً يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَة مَعَ الناسِ، فَأَغْلَظْتُ لَهُ وَنِلْتُ مِنْهُ، فَحَلُمَ عَني، ثُم قَالَ: يَا عُثْمَانُ لَعَلك سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْماً بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْت. فَقُلْتُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وَذَلتْ. فَقَالَ: بَلْ عَمرَتْ وَعَزتْ يَوْمَئِذٍ. وَدَخَلَ الْكَعْبَة فَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ مِني مَوْقِعاً ظَنَنْتُ يَوْمَئِذٍ أَن الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إلَى مَا قَالَ، فَلَما كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَالَ: يَا عُثْمَانُ ائْتِنِي بِالْمِفْتَاحِ. فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ مِني ثُم دَفَعَهُ إليّ وَقَالَ: خُذُوهَا خَالِدَة تَالِدَة لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلا ظَالِمٌ».
وختاماً: فما أجملها أن تكون المملكة ومن عليها حارسة لمفاتيح الكعبة وضيوف الرحمن، أجل إنه موسم استثنائي وأنموذجاً لتطوير رحلة الحج باستخدام التقنيات الحديثة والأساليب المتطورة، لتسير الخطى ثابتة نحو تحقيق مستهدفات رؤية 2030 بقيادة ذات حزم وعزم، بل بقيادة سعودية جديدة، يشعر السعوديون وضيوفهم بالفخر والاعتزاز، يُقدمون ما يملكون بقلوب مطمئنة لمستقبل حالم بعيد عن أي ادعاءات واهية لـ»تسييس الحج» الذي يُريده الحاقدون، وقد دحرهم الله بفضله ثم إصرار السعودي.. ليهل علينا عيدنا الأضحى في خدمة حجاج بيته المعمور كأولوية دينية وسيادية ووطنية لا يمكن الحياد عنها، حفظ الله أمتنا وكل عام وخادم الحرمين الشريفين وولي عهده والشعب وضيوفه بخير وبركة.