مرفت بخاري
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 27).
نداء قديم، انطلق من السماء إلى الأرض، وسُمع في القلوب قبل الآذان.. نداء لا يُجاب بالأقدام فقط، بل بالأرواح الراجفة والقلوب المشتاقة.
فالحج ليس مجرد طقس موسمي، بل عهد أزلي بين العبد وربه، ومن فهم هذا لبّى بقلبه قبل بدنه. فالحج ليس عبادة تؤدى في زمنٍ معلوم فحسب، بل هو استجابة لنداء قديم سبق الزمان والمكان، وتجديد عهد بين العبد وربه، وإتمام الركن الأخير من أركان الإسلام. كيف لا، وقد اكتمل فيه الدين يوم قال الله تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة: 3). وفيه يتجرد الإنسان عن لقبه ومكانته وهيبته، ويتساوى الغني بالفقير، ويقفون بين يدي الله بقلوب خاشعة لربها، خاضعة ترجو رحمته ومغفرته، وتدعو بالفوز برضاه والجنة.
القلوب وجِلَة، والدموع تنهمر، والتوبة تتجلى في قلوب الملايين، والخوف يفقد السيطرة ما بين دمعة ندم ورجاء قبول، فحين يهتف الحاج: «لبيك اللهم لبيك»، يتزلزل كيانه وتتسابق مدامعه، وأعظم ما يبكيه هو أنه أدرك أن الله اصطفاه من بين الملايين ليقف في حضرته في هذا اليوم العظيم، وكتب مع الحجيج، ليدرك ويستشعر حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
فسبحان من يمنح عباده فرصة البدء من جديد، وسبحان من يعطي عباده صفحةً بيضاء لا ذرة فيها من الذنب. فالحج هو الموعد، وهو الحضن الذي نعود إليه بعد التيه والغفلة وبعد الانصياع للنفس الأمّارة بالسوء. تلك الدموع التي تنهمر تذكرني بسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا دخل الحرم، يرتجف كأنما يقف بين يدي الله، ويقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحيّنا ربنا بالسلام.»
فحين نطوف، لا ندور حول بناء حجري، بل حول أمرٍ أُمِرنا به من رب عظيم حليم كريم، فالطواف تذكير بأن الله هو المركز الذي ندور حوله، لا شهوة، ولا دنيا، ولا شهرة. والسعي هو امتداد حقيقي لخطوات أم عظيمة، ركضت بحثًا عن الماء، فخلّد الله سعيها في عبادة تتكرر إلى يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ} (158)البقرة: 158).
والحج عرفة، ففي هذا اليوم يباهي الله ملائكته بعباده الواقفين على صعيده الطاهر ويقول: «انظروا إلى عبادي، جاءوني شعثًا غبرًا، أشهدكم أني قد غفرت لهم».
ومنذ أن حج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومعه عشرات الآلاف من الصحابة، والحج يتوسّع، ويكبر، ويعانق العالم بخدماته. ولكن، وبكل أمانة، لم يشهد في تاريخه تطورًا وخدمة وراحة كما هو اليوم، في ظل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين محمد بن سلمان - حفظهما الله - جعل الله كل هذا العطاء والبذل والمجهود المتواصل على مدار اليوم في موازين أعمالهم. لقد جعلوا من الحج رحلة روحانية، وإنسانية، وتقنية. بدايةً من توسعة الحرم الشريف لتستوعب الملايين، مرورًا بقطار الحرمين السريع الذي يختصر المسافات، وصولًا إلى الأنظمة التنظيمية الذكية التي تسهّل حركة الحجيج، والفرق الطبية، والإسعافية، والأمنية، والخدمات التي تُقدَّم بلا انقطاع، والتوجيه والتفويج المنظم، والمسارات المحددة، وتسخير كافة الخدمات من تبريد وتلطيف الأجواء، إلى حملات سقيا الحجيج، والتنظيم الدقيق، ومنع انضمام المخالفين بكل الطرق الأمنية.
حقًا، ما نراه اليوم من تجهيزات هذا العام يجعلنا نعيش في مشاعر الفخر والاعتزاز والامتنان لقيادتنا الرشيدة، ورجال أمننا الكرام، وكافة القطاعات التي تسخّر الجميع لخدمة حجيج بيت الله، ضيوفنا الكرام، فقط لتبقى ذكرى خالدة في قلوبهم قبل عقولهم. فإن رجعت من حجك وأنت لا تزال كما كنت.. فربما لبّى جسدك وضلّ قلبك.
فالحج ليس فقط أن يُقال لك: «حجّ مبرور»، بل أن تعود أنقى، أهدأ، أقرب إلى الله.
فتذكر، أخي الحاج، ولاة أمرنا بدعوة بظهر الغيب امتنانًا لجميع ما يقدمونه لخدمتك وخدمة الحجيج.