د. تنيضب الفايدي
كسوة الكعبة هي الرداء من الحرير المنقوش عليها آيات من القرآن الكريم تكسى به الكعبة المشرَّفة، وهي من أهم مظاهر الاهتمام والتشريف والتبجيل للبيت الحرام، ويتم استبدالها مرة في السنة، وهي عملٌ مشروع؛ لأن ذلك من تعظيم بيت الله الحرام، وتعظيم بيت الله وكذا تعظيم شعائر الله أمر مطلوب من المؤمن، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}، وقال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
نبذة عن تاريخ أستار الكعبة
تاريخ كسوة الكعبة جزء من تاريخ الكعبة نفسها، فقد ذكر ابن حجر بأن أول من كسا البيت الحرام هو إسماعيل عليه السلام، وعدنان جد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعلى كسا البيت الحرام وهو أول من كسا البيت الحرام بعد إسماعيل عليه السلام،وقيل: أن الملك أسعد الحميري تبع اليمن أول من كسا الكعبة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن سبّ أسعد الحميري تبّع اليمن وكان أوّل من كسا الكعبة، وفي ذلك قال:
وكسونا البيت الذي حرم اللـ
ــه ملاء معضدا وبرودا
وأقمنا به من الشهر عشرا
وجعلنا لبابه إقليدا
وخرجنا منه نؤم سهيلا
قد رفعنا لواءنا معقودا
وبعد تبّع الحميري كساها الكثيرون في الجاهلية، فبعده كساها قصي بن كلاب، ثم كستها السيدة نبيلة بنت الحباب أم العباس بن عبدالمطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فهي أول من كستها من النساء في الجاهلية بالحرير والديباج، وأبو ربيعة بن المغيرة المخزومي القرشي وكان ثرياً في المال وتاجراً، وأم عمر بن الحكيم السلمي كست الكعبة المشرَّفة بعد البعثة بكسوة من شعر ووبر، وبعد فتح مكة بقيت كسوة الكعبة على حالها ولم يستبدلها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى احترقت على يد امرأة تريد تبخيرها فكساها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثياب اليمانية، فهو أول من كساها الثياب اليمانية، ثم كساها الخلفاء الراشدون من بعده، فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما كسياها بالقباطي، وعثمان بن عفان رضي الله عنه بالقباطي والبرود اليمانية، حيث أمر عامله على اليمن (يعلى بن منبه) بصنعها، فكان عثمان رضي الله عنه أول رجل في الإسلام يضع على الكعبة كسوتين، أحدهما فوق الأخرى، أما علي رضي الله عنه فلم يذكر المؤرِّخون أنه كسا الكعبة؛ نظراً لانشغاله بالفتن التي حدثت في عهده.
وفي عصر الدولة الأموية اهتم الخلفاء الأمويون بكسوة الكعبة، فأمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه كان يكسوها مرتين في العام، كسوة في يوم عاشوراء والأخرى في آخر شهر رمضان استعداداً لعيد الفطر، وكساها يزيد بن معاوية وهو أول من كساها بالديباج، وكساها عبدالله بن الزبير رضي الله عنه، وهو أول من خلق جوف الكعبة المشرَّفة بالطيب وطيبها وبخورها، وكساها عبد الملك بن مروان حيث أمره الحجاج بن يوسف أن يكسوها بالديباج .
وفي عصر الدولة العباسية اهتم الخلفاء العباسيون بكسوة الكعبة اهتماماً بالغاً نظراً لتطور النسيج والصبغ والتلوين والتطريز، وفي عام 160هـ عندما حجّ المهدي العباسي ذكر له بكثرة الكساء على الكعبة ويخشى بسبب ثقلها أن يتهدم الكعبة لضعف بنائها، فأمر بتجريدها مما عليها وألا يسدل عليها إلا كسوة واحدة، وهو المتبع إلى الآن، وفي زمن الخليفة هارون كسيت الكعبة ثلاث مرات في عام واحد، من الديباج الأحمر وتُكسى بها الكعبة يوم التروية، ومن القباطي وتُكسى بها غرة رجب، ومن الديباج الأبيض وهذه التي استحدثها المأمون يوم السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك، ولما أخبر الخليفة العباسي جعفر المتوكل بأن إزار الديباج الأحمر يبلى قبل حلول شهر رجب من مس الناس وتمسحهم بالكعبة، أمر بإزارين آخرين يضافان إلى الإزار الأول، ثم جعل في كلّ شهرين إزاراً، ثم كساها الناصر العباسي ثوباً أخضر ثم ثوباً أسود، ومن ذلك التاريخ احتفظ باللون الأسود للكسوة إلى يومنا هذا. ثم كساها أبو السرايا الأصفر بن الأصفر بكسوتين من الحرير الأبيض والأصفر، ثم كساها الخلفاء الفاطميون بالديباج الأبيض، ثم كساها الملك علي بن محمد الصليحي ملك اليمن سنة 455هـ، ثم كساها السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي ملك الهند سنة 466هـ، وكانت بالديباج الأصفر، ثم كساها نظام الملك وزير السلطان السلجوقي بكسوة بيضاء اللون، كساها أبو النصر الأستر آبادي وكانت بيضاء اللون من الهند، كساها المستنصر العبيدي بالديباج الأبيض،كساها الناصر لدين الله بالسواد، ثم كساها بالأخضر ثم أعادها بالسواد، كساها السلطان شاه رخ بن تيمور لنك ملك شيراز بإيران سنة 855هـ .
وبعد أن بسط السلطان سليم الأول سيطرته على بلاد الشام، ودخل القاهرة في شهر محرم 923هـ، ودخل الحجاز سلمياً في حوزة الدولة العثمانية، اهتم أثناء إقامته في مصر بإعداد كسوة الكعبة المشرّفة وكسوة لحجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكسوة لمقام إبراهيم عليه السلام كما صنع كسوة جديدة للمَحمل.
ثم كساها الإمام سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله- من سنة 1221هـ وحتى سنة 1227هـ من القز الأحمر والقيلان الفاخر، ثم كساها الملك حسين بن علي سنة (1341هـ) وقد بعثت بها الدولة العثمانية، ثم كساها جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود وظلت كسوة الكعبة المشرَّفة ترسل إلى السعودية من مصر، وفي عام 1344هـ صنعت الكسوة في الأحساء وذلك لتأخر صدور الكسوة من الديار المصرية بسبب الخلافات آنذاك. ثم أمر -رحمه الله- في شهر محرم عام 1346هـ بتصنيع كسوة الكعبة المباركة محلياً دون الاعتماد على الآخرين فأسس مصنعاً للكسوة المباركة بمكة المكرمة في أجياد، حيث تمت عمارتها في نحو الستة الأشهر الأولى فكانت هذه الدار أول مؤسسة خصصت لحياكة كسوة الكعبة المشرَّفة بالحجاز منذ كسيت الكعبة في العصر الجاهلي إلى العصر الحالي، وقد كسيت الكعبة المشرَّفة في ذلك العام 1346هـ بهذه الكسوة التي تعتبر أول كسوة للكعبة تصنع في مكة المكرمة، وقد ظل هذا المصنع يقوم بصنع الكسوة الشريفة إلى عام 1397هـ، ثم نقل العمل في الكسوة إلى مصنع كسوة الكعبة المشرَّفة، الذي تم بناؤه في أم الجود بمكة المكرمة،ولازالت الكسوة الشريفة تصنع به إلى هذا اليوم، واستمرت العناية في عهد الملك سعود بن عبد العزيز فقد كساها من عام 1373هـ إلى 1385هـ، ثم في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز فقد كساها من سنة 1386هـ حتى سنة 1394هـ، ثم الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود فقد كساها من سنة 1395هـ وحتى سنة (1401هـ )، والملك فهد بن عبد العزيز فقد كساها أربعة وعشرين سنة متوالية من 1402هـ حتى 1426هـ . وكساها الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود منذ 1426هـ حتى وفاته. وصدرت موافقة الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله على تحديث وتغيير الأنظمة الإلكترونية والأجهزة الكهربائية والمعدات الميكانيكية بمصنع كسوة الكعبة المشرَّفة بما يوافق الأنظمة المستحدثة، وتعدُ هذه الخطوةُ نقلةً تطويريةً متقدمةً في مجال صناعة رداء الكعبة المشرَّفة. وكساها الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وما زال مستمراً.
وتكريماً للملك المؤسس، صَدَرَتْ موافقةُ خادمِ الحرمينِ الشريفينِ الملكِ سلمانَ بنِ عبدِ العزيزِ آل سعود حفظه الله يوم الثلاثاء 13 شعبان 1439هـ بتغيير مسمى مصنع كسوة الكعبة المشرَّفة إلى مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرَّفة الذي يعدُّ من أكبر مجمعات تصنيع الحرير وتطريزه ونحته، ابتداءً من تصنيع الخيوط الحريرية وحياكتها وطباعة الرموز على القماش الحريري.
ويدخل بعدها إلى قسم التطريز بالمذهبات ثم يحوّل لقسم التجميع ثم الحشو للحروف بالقطن لإعطاء البروز والجمال للحرف في أثناء التطريز، ثم بعد ذلك يقومون بعملية التطريز التي تكون بالأسلاك الفضية المطلية بماء الذهب والأسلاك الفضية المخالصة، ثم يكون الثوب جاهزاً للاستبدال.
وقد منَّ اللهُ على المملكة العربية السعودية باستدامة هذه الصناعة وتطويرها وإدخال كل السبل التقنية الحديثة التي أسهمت في تمكين المجمع من إنتاج الثوب، ومن أهم ما تم استحداثه في عهد خادم الحرمين الشريفين الملكِ سلمانَ بنِ عبدِالعزيز آل سعود حفظه الله توفير ماكينة «تاجيما»، وماكينة الجاكارد، التي تقوم بصناعة ثوب الكعبة المشرَّفة المنقوش بالتسبيحات والقناديل المذهبة والكلمات وهي: «يا الله، وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، ولا إله إلا الله محمد رسول الله»، وتتم هذه العملية بواسطة الفريق الفني المختص من الأيدي الوطنية المدربة المؤهلة على هذه الماكينة التي تحتوي على أكثر من 9 آلاف وتر من الحرير، والثوب تستغرق صناعته من 6 إلى 8 أشهر، ويعمل في صناعته أكثر من (200) صانع على مدار السنة.
وتمرُّ مراحلُ كسوة الكعبة المشرَّفة بمجموعة من الأقسام الفنية والتشغيلية، وتبدأ بمرحلة الصباغة وهي أولى مراحل إنتاج الكسوة بالمصنع حيث يزود قسم الصباغة بأفضل أنواع الحرير الطبيعي الخالص في العالم، ثم النسيج الآلي الذي يحتوي على العبارات والآيات القرآنية والمنسوخة، ثم قسم المختبر الذي يقوم بإجراء الاختبارات المتنوعة للخيوط الحريرية والقطنية؛ من أجل التأكد من مطابقتها المواصفات القياسية المطلوبة من حيث قوة شد الخيوط الحريرية ومقاومتها لعوامل التعرية، إضافةً إلى عمل بعض الأبحاث والتجارب اللازمة لذلك، يأتي بعدها مرحلة الطباعة التي يتكون منها قسم الحزام والتطريز وقسم خياطة الكسوة، ثم وحدة العناية بكسوة الكعبة المشرَّفة.
وكسوة الكعبة التي تزن (850) كيلوجراماً، ومقسمة على (47) قطعة قماش بعرض (98) سم، وارتفاع (14)، تطرز بخيوط من الذهب والفضة، ويصل عدد قطع المذهبات إلى (54) قطعة على الكعبة، في قسم متخصص باسم «تطريز المذهبات» بالمجمع، وذلك باستخدام (120) كيلو جراما من المذهبات، و(100) كيلو جرام من الفضة المطلية بماء الذهب، و(760) كيلو جراما من الحرير، وتتجاوز التكلفة السنوية حاليّاً لكسوة الكعبة المشرَّفة 20 مليون ريال.
وهذا يؤكد عناية ورعاية المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها وصولاً للعهد الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، بكسوة الكعبة المشرَّفة حيث وفرت كامل الإمكانية التقنية والكوادر البشرية لخدمة بيت الله الحرام.
- - - - - - - -
المراجع:
آيات المسجد الحرام للسيد ضياء، اللمحة اللطيفة في ذكر كسوة الكعبة الشريف لابن حجر العسقلاني، نبذة تاريخية عن كسوة الكعبة المشرَّفة للدكتور ناصر الحارثي، زرع الكعبة ومساحة المسجد الحرام لـ: حسين الديار بكري، نفحات أدبية عن درر ومواقع مكية للدكتور/ تنيضب الفايدي، المراسيم والأوامر الملكية في رعاية مكة المكرمة والمشاعر المقدسة في العهد السعودي (1343هـ- 1436هـ/ 1922م- 2015م) للدكتور/ إبراهيم السلمي، مصنع كسوة الكعبة المشرَّفة للرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، موقع وكالة الأنباء السعودية.