نجلاء العتيبي
في هذه الأيام المباركة تتوهج القلوب بخشوع لا يشبه سواه، وتنبض الأرض بترقبٍ مهيبٍ؛ إذ تتجه الأنظار نحو المشاعر المقدسة، وتشحذ الهمم؛ لخدمة ضيوف الرحمن، بين دعاء الحاج واستعداد الوطن تتشكل لوحة منسوجة بالتفاني، ممهورة بالبذل، يخطها أناس آمنوا أن شرف المكان يليق به شرف العمل.
وقبل أن تبدأ مناسك الحج تنطلق آلاف الخطوات الهادئة خلف الكواليس، كل جهة تعد، وكل يد تجهز، وكل فكرة تستثمر؛ لتكون الرحلة الإيمانية أكثر سلاسة وطمأنينة، لا شيء يترك للمصادفة؛ فالأمانة هنا عظيمة، والميدان يستقبل ضيوفًا لبوا نداء الله فأصبح واجبًا أن يلاقوا التيسير في كل زاوية، فالاستعداد لهذه الأيام ليس مجرد واجبٍ؛ إنها حالة شعورية عظيمة يعيشها كل من يتعامل مع شؤون الحج من أصغر عامل إلى أعلى مسؤول.
الكل يضع في اعتباره أن كل حاجٍ أتى متجشمًا عناء السفر، راغبًا في القرب من الله، فيجب أن يجد الطريق إليه ميسرًا خاليًا من المشقة، فمن أكبر المشروعات إلى أدق التفاصيل، كل شيء يعد بعناية، أنظمة النقل، التوجيه، الغذاء، الصحة، الاتصالات.. سلسلة متصلة من العطاء تستعد لاحتضان الملايين، وكلها تنبع من إدراكٍ راسخٍ أن خدمة الحاج ليست وظيفة؛ بل هي فضل وشرف يتجاوز المهنة إلى معنى الحياة.
وما إن يبدأ الحج حتى تظهر النتائج في مشاهد تستحق أن تخلد؛ حاجٌ كبير في السن يبتسم حين تصله زجاجة ماء باردة قبل أن يطلبها، وآخر يغمره الفرح حين يرى هاتفه متصلًا بشبكة مجانية، يرسل عبرها رسالة قصيرة لأهله يخبرهم فيها أنه بخير دون أن يدرك أن خلف هذه اللحظة عشرات العقول والقلوب التي خططت لأجلها، وفي ممرات المشاعر ترى رجال الأمن يقفون بثباتٍ ورفقٍ، وفرق الطوارئ تسابق الوقت، والمتطوعين يتسابقون؛ لتقديم ما يعين الحاج على نسكه بهدوء لا يطلب التقدير؛ ولكن ينتظر الأجر.
العظمة لا تكمن في كثافة الخدمات فقط، بل في رقتها وإنسانيتها وسبقها لحاجة الحاج قبل أن تذكر، كل ما ينجز هنا هو امتدادٌ لنية طيبة، وشعور داخلي عميق بأن كل من وفد إلى هذا المكان الطاهر يستحق العناية قبل أن يشعر بالتعب، فالاستعداد لموسم الحج ليس تجهيزًا تقنيًا فحسب، بل إنه تجهيزٌ لقلوبٍ اختارت أن تزرع الخير، وتغادر الظل.
فالذين يمهدون الطريق، ويسخرون التقنية، ويبسطون كل معقد، يجسدون وطنًا جعل من خدمة الحاج نبضه، ومن العطاء رسالته دون انتظار كلمة امتنان؛ فهنيئًا لوطنٍ جعل من الحج موعدًا سنويًا مع المعنى، وهنيئًا لحاجٍ وجد في المملكة احتواءً يفوق التوقع، ومرافقة لا تخذله في أصغر التفاصيل.
وهنيئًا لمشهدٍ تتعانق فيه الجهود والدعوات، ويروى فيه العطاء بالصمت؛ لتعلو صورة الوطن في القلوب لا بأعلامٍ ترفع بل بأفعالٍ تبقى.
ضوء
«إن المملكة فخورةٌ بوضع كل إمكاناتها لخدمة حجاج بيت الله الذين يحلون في بلادهم وبين أشقائهم».
- الملك خالد بن عبدالعزيز -رحمه الله.