خالد محمد الدوس
ثقافة الحوار تمثل أحد أسس الحياة الاجتماعية، ووسيلة لرأب الصدع الاجتماعي، لأنها تنشر في المجتمع مفاهيم وسلوكيات وأطُراً تؤكد معنى المصالحة، وتبعث الانسجام، وتحد من الخلاف والتنافر، وبالتالي تمنع ما يسمى «التشتت الثقافي» لأنها تحقق التفاهم والتقارب والتماذج بين الأفراد، فكثير من المجتمعات المتحضرة تستند للحوار والتفاهم لا لكونه وسيلة للتواصل..! ولكن بوصفة وسيلة للتحضر والارتقاء والبناء الفكري والقيمي.
وفي المقابل عندما يغيب (الحوار الواعي) وأدبياته في ساحة النقاش وتبادل الآراء، تظهر الصراعات الفكرية في أقبح صورة، فضلاً عن إشاعة لغة الإقصاء والتعصب للرأي وعدم قبول الآخر في المجتمع، ونشر أمراض التشدد والتطرف والانغلاق في الفهم..!!
ففي واقع مجتمعنا وحياتنا المعاصرة أصبحنا نسمع ونشاهد في (بعض) وسائل الإعلام التقليدية سواء كانت مرئية أو مسموعة، أو حتى في وسائل الإعلام الرقمي خاصة الرياضية مما يطلق عليها حوارات إعلامية، وهي في الحقيقة ليست حوارات نقدية وموضوعية، وإنما هي تكريس ونشر لثقافة التعصب المقيت والإقصاء وشطب الآخر ورفض رأيه وعدم قبوله بصرف النظر عن قيمته وموضوعيته، والانحياز الفاضح على حساب الحقائق والمصلحة العامة، وربما ينتقل إلى المتلقي جماهير عادية بسيطة تتأثر ثقافياً بتلك الملاسنات والإسقاطات والترهات المناهضة لقواعد الضبط الديني والأخلاقي والاجتماعي والمهني.
وفي داخل النسق الأسري غاب الحوار المنزلي وتحولت بعض البيوت إلى مساكن تعج برياح الهموم النفسية والضغوط الاجتماعية ومثالبها العاطفية.. فأصبحت الحياة الأسرية في ظل (هشاشة) الحوار المنزلي وإشاعة ثقافة الإقصاء والفكر الأحادي داخل الكيان الأسري.. تسكنها مكروبات العنف ومظاهره، وربما تنتهي الحياة الزوجية بالانفصال الوجداني أو الطلاق النهائي.
وفي معظم المجالس والملتقيات الاجتماعية يغيب فيها صوت الحوار البناء في النقاش وتبادل الآراء والتحاور الفكري، فتسيطر بعض الأمراض الفكرية والمثالب الاجتماعية على سلوك وقيم وثقافة الكثير من المتحاورين، وبالتالي لا مجال لحرية الرأي والتواصل وقبول الاختلاف والتسامح واحترام الرأي الآخر.
وفي السياق ذاته عندما تتجه البوصلة إلى المؤسسات التعليمية ومناخها المدرسي والجامعي، نجد أنها تعاني من أزمة مع ثقافة الحوار التربوي ومكوناته في الوقت الذي يمارس فيه (بعض) المعلمين وأعضاء هيئة التدريس في التعليم بشقيه العام والجامعي سياسة القمع والتصلف والإقصاء وعدم فتح باب الحوار الواعي، ونوافذ المناقشة والمحاورة والمناظرة في التعليم، فمن الطبيعي أن يخرج لنا جيل يعاني من مشاكل في اتصاله الفكري، وفي سوء تربيته الحوارية. ولذلك ربط الأب الروحي لعلم الاجتماع ومؤسسه العلامة ابن خلدون -رحمه الله تعالى - ضعف الحوار والتواصل اللفظي والركود الذهني برداءة التدريس الذي أهمل أسس المناقشة والمناظرة وتبادل الآراء الجماعية والمحاورة في التعليم، كما تتسع دائرة الحوار المنغلق في بيئة العمل على وجه التحديد، وكثيراً ما نسمع ونشاهد بعض المديرين وعلاقتهم الوظيفية والإنسانية مع المرؤوسين، التي تظهر في سياق لغة الحوار التسلطي على طريقة اسمع واجب. ومنهم من يهمش الطرف الآخر ويقصيه وبالتالي يعتبره أدنى من أن يتحاور معه، وعليه فقط الاستماع للأوامر الفوقية والاستجابة دون مناقشة أو تحاور، وحين نقارن هذا الفكر الإقصائي مع فكر واحد من أشهر المستثمرين في مجال الحواسيب الشخصي وصاحب أكبر شركة تقنية في العالم مايكروسوفت الملياردير الأمريكي بيل جيتس الذي قاد شركته - وقبل ترجله - في إنتاج الكثير من البرمجيات الشهيرة، وأرباح وعوائد مالية فاقت درجة التوقع، نجد أنه كان يؤمن بأن إشاعة ثقافة الحوار الإيجابي وتبادل الأفكار واحترام الآراء والتواصل بين الرئيس والمرؤوس من أهم عوامل نجاح العمل وتعزيز قيم الإنتاج والتطوير والبناء الوظيفي، وهذا بالتأكيد من أهم أسرار نجاح هذه الشركة العالمية العملاقة.
ومن هنا فإن ضعف لغة الحوار الإيجابي بين معظم أطياف مجتمعنا الفتي هي نتاج ثقافة مجتمعية مترسبة، وإرث اجتماعي متراكم، ولذلك ينبغي تضافر الجهود الوطنية المشتركة بين مؤسسات التنشئة الاجتماعية (المؤسسات الدينية والإعلامية والثقافية والتربوية والتعليمية) والجهات المعنية، وضرورة إدخال منهج «التربية الحوارية» في المراحل التعليمية لتنمية مهارات الاتصال الفعال وأدبياته وتخصيص جلسات حوارية بشكل دوري داخل المدارس والصروح الأكاديمية تساهم مؤسسياً في بناء جيل حواري في تنشئته وتربيته ووعيه، وتفاعله الاجتماعي.