د. رانيا القرعاوي
الحج تجربة لا تتكرر إلا مرة واحدة في العمر لمعظم الناس. ففي كل عام، تستقبل السعودية ملايين الحجاج من مختلف دول العالم، ليخوضوا تجربة دينية لا نظير لها، حيث يكون الإنسان خلالها في أقصى درجات الروحانية، ما يجعله أكثر قابلية لتلقي الرسائل الإعلامية والتفاعل معها.
في قلب هذه اللحظة الإيمانية الكبرى، تقف السعودية في موقع استثنائي، لا بصفتها الدولة المضيفة فقط، بل كدولة تحت أنظار العالم في إدارتها للحشود وضمان السلامة، وسط تحديات بيئية متزايدة تتطلب إعلامًا مسؤولًا لا يكتفي بالتغطية، بل يسهم في توجيه السلوك نحو ممارسات أكثر وعيًا واحترامًا للبيئة.
خلال دراستي للإعلام، اطلعت على «نظرية الاتصال التشاركي»، ولم أجد تطبيقًا حيًا لها مثل موسم الحج. هذه النظرية تقوم على إشراك الجمهور لا مخاطبته فقط؛ فالحاج ليس متلقيًا سلبيًا، بل مشاركًا يمكنه التفاعل والنقل، خاصة في تبني سلوكيات بيئية واعية.
بلغ عدد الحجاج في موسم 1446هـ أكثر من 1.67 مليون حاج، جاء أكثر من 1.5 مليون منهم من خارج المملكة، يمثلون أكثر من 200 دولة. ومع هذا الحجم الهائل، يصبح التأثير البيئي ملموسًا؛ إذ يبلغ معدل إنتاج الفرد للنفايات نحو 1.6 كجم يوميًا، مما يجعل التوعية البيئية والفرز وإعادة الاستخدام ضرورة لا ترفًا.
وقد نفذت السعودية العديد من المبادرات البيئية المتسقة مع رؤية 2030، مثل «إحرام مستدام»، والحافلات الكهربائية، وتبريد الطرق، إضافة إلى بث رسائل توعوية بلغات متعددة قبل وأثناء الحج. لكن الأهم من الرسائل، هو الأثر الذي تتركه في نفوس الحجاج وسلوكهم بعد هذه الرحلة. وهنا يظهر مقترح عملي للجهات المعنية، يتمثل في إجراء استبيان رقمي بعد عودتهم لقياس مدى تأثرهم بالرسائل البيئية، وهل غيّرت من وعيهم وسلوكهم؟ وكيف باتوا ينظرون للمملكة بعد هذه التجربة؟ نتائج هذا النوع من الاستبيانات يمكن أن تقدم قراءة دقيقة لفعالية الحملات، وتساهم في تطويرها مستقبلًا.
الحج أيضًا فرصة نادرة لتقديم السعودية بصورة تجمع بين روحانية المكان وحداثة الإدارة، خاصة حين يرى الحاج تطبيقات ذكية، وخدمات نظيفة، ونظامًا يراعي الإنسان والبيئة معًا، وحملات مثل حملة «إنها طاهرة» لوزارة البيئة.
أتذكر جملة للكاتب الأمريكي مايكل وولف، الذي كتب عن تجربته في الحج، قال فيها «كل ما هو جوهري يحدث في الظلام. لا يمكننا أبدًا معرفة القصة الداخلية للآخر.»
تلك التحولات التي يعيشها الحاج وإن كانت لا ترى في وقتها، لكنها قابلة للقياس، فقط إذا سألناه عنها بصدق، من خلال استبيان محكم يراعي الفروق الثقافية لحجم العينة.
في رأيي، موسم الحج ليس مناسبة دينية فقط، بل فرصة سنوية لفهم الناس عن قرب، وقياس أثر الرسائل التوعوية وتطويرها.
السعودية تملك اليوم المنصة، والخبرة، والأدوات. وما تحتاجه في المرحلة المقبلة هو الاستماع الهادئ للزائر بعد عودته إلى وطنه، وسؤاله، «كيف تغيّرت بعد الحج.. سلوكيًا وبيئيًا؟»
فقد تكون الإجابة بداية لتغيير أكبر مما نتخيل.