حسن اليمني
ليس هناك أسهل من سلق البيض لسد جوع البطن ولكن سد جوع العقل بالفكر والتفكير يحتاج إلى جهد جهيد، وفك طلاسم معقدة مختبئة داخل زوايا الجمجمة، اعتقد أننا نحتاج أحيانا للمجازفة بخوضها لرؤية الصورة بشكل أجمل.
لكل مجتمع بيئته وثقافته المحلية بما يسمى أعراف وعادات وتقاليد، وينبثق منه ما قد أسميه الفهم الاجتماعي أو التصور التخيلي المتعارف عليه، وهذا التصور التخيلي المتعارف عليه هو ما يميز مجتمع عن آخر، باعتباره فهما جمعيا مألوفا وما يظهر خارج إطاره أو دائرته يعد خارجا عن الفهم الجمعي، قد ينال الإعجاب ويتكرر حتى يترسخ أو قد يلاقي نفورا وامتعاضا يمكن أن يستخدم في فرص مماثلة حتى يصبح داخل حيز الإعجاب والتكرار إلى أن يصبح من ضمن الخصوصية الاجتماعية واللغة الدارجة بين العامة.
خذ مثالا كلمة (OKEY) من اللغة الإنجليزية فأنت اليوم تسمعها من الكبير والصغير بشكل اعتيادي غير مستغرب منه إلا ربما عند ذوي الحساسة اللغوية أو الثقافة العميقة، وقس عليها كثيرا من الكلمات الداخلة في اللغة العامية المحلية للمجتمع كلمات وتصرفات وأفعالا كثيرة تم استيرادها من جغرافية خارج الإطار المحلي وأصبحت مستأنسة بين العامة والخاصة، وفي الفترة الأخيرة صارت (location) مع وجود تطبيق «قوقل ماب» طاردة بشكل يكاد يكون كاملا للكلمة العربية «موقع» وصار الخروج بفانيلا وسروال قصير مألوف ومعتاد وغير مستغرب أو مستوحش في المجتمع طالما كان ملونا في حين أن الخروج بفانيلا بيضاء وسروال طويل أبيض يعد خارج التهذيب والاستئناس الطبيعي في المجتمع ويعاقب عليه، ومن الطرائف في الجانب النسائي لبس العباءة على فانيلا وسروال –ملون بالطبع– ثم ترك العباءة مفتوحة لدمج القديم بالجديد، وإن كان هذا على المستوى الفردي فكذلك هناك صور على المستوى الجمعي أيضا مثل مناسبات الأفراح والأتراح والولائم فبدل صواني تلزم استقامة الظهر صارت صحونا تحني الظهور ثم انتقلت إلى ما يسمى بـ»بوفيه مفتوح» والطريف في الأمر أن هذا البوفيه المفتوح لا يخدم النمط الاجتماعي المحلي الذي ينحاز لإكرام الضيف وتقديره ولا يتناسق مع الصورة الاجتماعية المتعارف عليها حين يلزم الضيف بالوقوف في صف طويل حاملا بيده صحنا صغيرا لغرف وجبة الضيافة، الصورة حقيقة فيها الكثير من السخرية التي تناقض البيئة الاجتماعية لكنه التقليد، وليس القصد رفض أو قبول أو حكم بالجودة أو الرداءة ولكن إبراز صور تشرح المعنى في تغير المفهوم الاجتماعي لمرافقة التغير والتحول في فهم البيئة الاجتماعية بغرض إظهار أهميته وكشف إمكانية هندسته وإدارته. إذ هناك تغيرات في الكلمة والفعل تدخل في عمق المجتمع وتعيد بناء أعرافه وتقاليده، تأتي من مصادر متعددة منها وسائل الإعلام ومنها محاكاة الآخر ومنها أيضا شغف التغيير والتبديل الطبيعي في مزاج الإنسان، وإذا كان هذا التغيير في الكلمة والفعل أصبح ظاهرا وواضحا بناء على الأمثلة في السطور السابقة فإن هناك ما هو أحق بالذكر وأهم، وأقصد الفكر والوعي، فالكلمة والفعل مصدرهما الوعي والفكر في القبول والرفض، وعملية القبول والرفض الصادرة عن الوعي والفكر في العقل هي نواة ومركز مضمون التحول والتغير، وحين نصل إلى هذه النقطة فلا بد أننا وصلنا إلى العقل وإعاة التفكير بما يحوجنا لمراجعة بعض سلوكياتنا وأفعالنا وإعادة التقييم.
من السذاجة القول إننا يجب أن نعود لطبائعنا الاجتماعية وأن نتخلص من كل مستقدم وارد من خارجه، هذا ليس قابلا للطرح أو المناقشة ولكن رفع درجة الفهم والوعي واستثارة العقل في التفكير والتأمل في الكلمة والفعل الاعتيادي هو بحد ذاته تغير وتحول إيجابي للبيئة الاجتماعية بعيد عن القبول والرفض أو المدح والذم، فالمسار أو الاتجاه الجمعي المتجانس صواب حتى وإن كان من معطى خاطئ وإيجابي حتى وإن كان من مورد سلبي، فالقيمة تكمن في الحراك الجمعي للبيئة الاجتماعية، على أن هذا كله يعطينا صورة تأخر لبيئتنا الاجتماعية حين يخلو من نشاط ذهني يتيح لنا الانتقاء وتصفية القادم من شوائبه الرديئة، تماما مثل ما نحرص على خلو الطعام من زيوت مصدرها لحم الخنزير أو المشروب من وجود الكحول، فالأخلاق والقيم هي أيضا عزيزة مثل الصحة والمعتقد.
التأثر والمحاكاة وتبادل الأفهام والثقافات والعادات بين الشعوب والمجتمعات طبيعي منذ الوجود، ومع ترقي التقنية الرقمية واتساع سبل التواصل بين الناس من مختلف الثقافات والأديان والأعراف فمن الطبيعي جدا التقاطع والاشتراك في مفاهيم تصبح عالمية الألفة والعرف والمفهوم، وهذا إيجابي بطبيعته وإنما تظهر السلبية في حبسه بين الكلمة والفعل دون الفكر والفهم، الفكر والفهم هو أن الخصوصية أو جذر الوعي العميق للمجتمع، والخروج عنه خروج من البيئة الاجتماعية دون وعي وهذا أمر غير جيد، فليس الرقي والتطور خامة أجنبية أو فعل مقلد وإنما فكر متقدم وفهم أعمق، وإذا كانت المحاكاة والتقليد سهلا ومرنا بسيطا فان الكلمة والفعل دون الفكر والوعي متوفرة حتى للبهائم، وبالتالي لا يدخل مجال الرقي والتطور للبيئة الاجتماعية، لكن ترقية الفكر والفهم هو ما يرقي ويطور السلوك الذي يجمع التمدن والتحضر للبيئة المجتمعية، وكلما زادت نسبة السلوك الراقي زادت نسبة التحضر ليصبح التمدن في المحاكاة والتقليد إيجابيا على البيئة الاجتماعية من خلال تقارب التجانس بين الكلمة والفعل مع السلوك والخلق المتحضر لتكامل صورة المجتمع الراقي المتحضر.