د.عبدالله بن موسى الطاير
عبارة «حتى أنت يا بروتوس؟» - التي نطق بها يوليوس قيصر عندما طعنه صديقه الأمين بروتوس - تُجسّد تجربة إنسانية عالمية هي مرارة الخيانة. هذا الفعل والمفهوم المراوغ، خاصةً من أولئك الذين هم موضع ثقة، يتجاوز الزمان والمكان، ويتغلغل في المجتمعات السياسية حيث يكون الولاء عملة وسلاحًا في آنٍ واحد.
الخيانة في السياسة ليست حدثًا فرديًا مرتبطًا بعصر أو شخصية محددة؛ بل سلوك متكرر يُشكّل ديناميكيات القوة، ويُقوّض الثقة، ويُؤجج الانقسام. من روما القديمة إلى الديمقراطيات الحديثة، لا يزال ألم الخيانة ما ثلا.
دورة الأحداث في القرن العشرين، وتسارع وتيرتها في الواحد والعشرين تعرض مشاهدات مؤلمة للخيانة السياسية، لتبقي «حتى أنت يا بروتس» أدوم حضورا وعلى فترات متقاربة.
على سبيل المثال؛ أظن أن الملك فاروق قد همهم بها وهو يرقب تلوّن محمد حسنين هيكل الذي طبل للعرش وبخاصة في مقالته: «في عيد جلوسك يا مولاي»، ورصد من منفاه تحول هيكل إلى ناصر بشكل فج.
في المجتمعات السياسية، غالبًا ما تتجلى الخيانة في انقلاب الحلفاء على بعضهم البعض سعيًا وراء السلطة أو المكاسب الشخصية. لنأخذ استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016م. بوريس جونسون، المحافظ البارز، قاد حملة «الخروج» ضد زعيم حزبه، رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، الذي كان مؤيدًا للبقاء في الاتحاد الأوروبي. أدى انشقاق جونسون، ومعه نواب محافظون آخرون، إلى تفتيت الحزب وأسهم في استقالة كاميرون. لم يكن هذا مجرد خلاف سياسي؛ بل كان تخليًا علنيًا عن رؤية مشتركة، مما ترك كاميرون معزولًا سياسيًا. أعادت هذه الخيانة، من وجهة نظر كاميرون وأنصاره، تشكيل مسار المملكة المتحدة، مُثبتةً كيف يمكن للطموح الشخصي أن يتغلب على الولاء الجماعي.
وعبر المحيط الأطلسي، تُقدم الولايات المتحدة مثالًا صارخًا آخر. في عام 2020، واجه نائب الرئيس السابق مايك بنس ضغوطًا هائلة من الرئيس لإلغاء اعتماد نتيجة الانتخابات التي فاز بها جو بايدن. رأى ترامب وقاعدته رفض بنس، المرتكز على واجبه الدستوري كرئيس لمجلس الشيوخ، خيانةً سياسية لرئيسه والمصوتين له. هذا التصرف يمثل بطولة لنائب الرئيس، لكنه كان بمثابة خنجر في ظهر زعيمه.
سياقات الحسرة المتصلة بـ: «حتى أنت يا بروتس»، يسلط الضوء على اختلاف فهم الخيانة باختلاف المنظور.
تاريخيًا، غذّت الخيانة تحولات سياسية دراماتيكية في عالم السياسة. في عام 1979م، صعدت مارغريت تاتشر إلى زعامة حزب المحافظين البريطاني متحدية إدوارد هيث، مرشدها وزعيم حزب المحافظين. وقد قلبت خطوتها أو (خيانتها)، صفوف الحزب القديمة رأسًا على عقب، وأدت إلى بزوغ عهد جديد من المحافظة السياسية. أظهر هذا الانقلاب الداخلي كيف أن الخيانة، وإن كانت مؤلمة، إلا أنها قد تكون حافزًا للتحول، وإن على حساب الثقة.
التحالفات السياسية والمصلحية تصبح هشة عندما يكون الطموح أو الأيديولوجية أو البقاء على قيد الحياة على المحك. في عام 2023م واجه الرئيس الفرنسي خيانةً من داخل ائتلافه عندما نأى حلفاؤه الرئيسيون بأنفسهم عنه خلال احتجاجات إصلاح نظام التقاعد. أدى تراجعهم، مدفوعًا بالخوف من رد فعل انتخابي عنيف، إلى إضعاف حكومة ماكرون وتشجيع المعارضة. كشفت تلك الممارسة كيف أن الحفاظ على الذات غالبًا ما يتفوق على الولاء عندما تعصف ريح الأزمات السياسية.
«وأنت أيضًا يا بروتوس؟» ليست مجرد رثاء تاريخي؛ الخيانة في المجتمعات السياسية أمرٌ لا مفر منه، مدفوعة بالتفاعل المُعقّد للطبيعة البشرية بين الولاء والطموح والمبادئ. وبينما يُمكنها أن تُمزّق التحالفات وتزرع انعدام الثقة، فإنها تؤدي أيضًا إلى المراجعة.
إلا أن التحدي يكمن في التعامل مع تداعياتها، وضمان ألا تتفاقم جروح الخيانة وتفضي إلى انقسام دائم. ما دامت السلطة قائمة، سيبقى شبح بروتوس، مُذكرًا بأنه حتى أقرب الحلفاء قادرون على استخدام أشد السكاكين حدة. لا أدري ما إذا كان الرئيس ترامب قد اجترها وهو يقرأ تغريدات إيلون ماسك: حتى أنت يا إيلون؟