شهدت علاقة الحجاج بمؤسسات الدولة في المملكة العربية السعودية تحولا في وسائل التعبير والتواصل، بدءا من المكاتيب الورقية وصولا إلى التفاعل المباشر عبر المنصات الرقيمة، إذ لم يكن الحاج مجرد زائر، بل كان صوته حاضرا ومسموعا منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز، إذ إن من الأمور التي اهتم بها الملك عبدالعزيز- طيب الله ثراه- صلة الحجاج بأهلهم خاصة في تلك الأيام التي يغيب فيها الحجاج عن بلادهم، وأهلهم لمدة طويلة، بسبب طول مسافة الطريق، وبطء خطوط المواصلات، لذا حرص على تقديم التسهيلات للحجاج منذ عام 1345هـ/ 1926م حينما أمر إدارة البريد والبرق بوضع صناديق خاصة للبريد في شوارع مكة المكرمة، والواقع أن تلك الصناديق لم تكن مخصصة لإيداع رسائل الحجاج وإيصالها إلى موقعها في بلدانهم، إنما كانت بمثابة نقطة وصل بين الحجاج وبين الملك عبدالعزيز من خلال الاستماع إلى شكاوي الحجاج وملاحظاتهم، وقد وجدت هذه الأصوات آذاناً صاغية في إطار سعي الدولة لتطوير خدماتها وتحقيق مطالب الحجاج وراحتهم، ولضمان استمرار وصول الرسائل المرسلة إلى أصحابها أو الواردة إلى مكة المكرمة دون انقطاع، أمر الملك عبدالعزيز بنقل البريد بواسطة السيارات، كما كان البريد ينقل الصحف من خارج البلاد إلى الحجاج حتى يكونوا على إطلاع على كل ما يجري في أوطانهم، ومع تطور وسائل المواصلات صار نقل البريد بالطائرات.
من الشواهد التاريخية البارزة التي تجسد حرص الدولة على الاستماع لصوت الحاج والتفاعل معه، ما رواه عبدالحميد الخطيب عن الملك عبدالعزيز حين بلغه أن أحد الحجاج شكا من ضعف العناية بشوارع مكة، وضعف الإنارة، وكانت أمانة مكة المكرمة تحت أحد الأعيان المقربين للملك عبدالعزيز، ولكن الملك حين لم يتردد؛ إذ استدعى مجلس الشورى بمجلسه بأكمله، وقال لهم بصراحة القائد الحازم: إنكم محل ثقتي وقد عهدت إليكم بالنظر في شؤون هذه البلاد صغيرها وكبيرها، وقد بلغني أن أحد الحجاج لاحظ تقصيرا من أمانة العاصمة في أداء واجباتها فإذا كان الحاج قد لاحظ فأنتم أهل البلد أولى بالعلم به، ثم أمر بعزل المسؤول وتعيين أمين جديد أكثر كفاءة.
فذلك الموقف لم يمر مروراً عابراً بل مثّل لحظة فارقة في تأكيد مبدأ المساءلة، وشاهدا أن صوت الحاج في عهد الملك عبدالعزيز لكن مغيبا أو مهمشا، بل كان يصغى إليه بجدية، وتبنى عليه قرارات تعكس التزام الدولة في رسالة واضحة بأن خدمة الحجاج فوق كل المجاملات.
من جانب آخر، لم تكن استجابة الدولة للحجاج مقتصرة على القنوات الرسمية، بل كان للصحافة دورها في التفاعل مع الحجاج، فقد حرصت صحيفة أم القرى بصفتها الصحيفة الرسمية في الدولة على رصد عدد من رسائل الحجاج وملاحظاتهم، بل نشرت العديد من برقيات الشكر التي كانت تصل إلى الديوان الملكي، التي عبّر فيها الحجاج عن امتنانهم ما يجدونه من أمن واستقرار في رحلتهم إلى الأراضي المقدسة خلال إدائهم فريضة الحج، من ذلك ما جاء في العدد (2213) تحت عنوان «الفيصل يتلقى شكر الحجاج على الأمن السائد في البلاد، ومن هذه البرقيات برقية لحاجة تدعى زينب يوسف علي، وفيها تشكر القيادة على حسن تعاملها وشرطة المسجد الحرام المخلصين في عملها حينما فقدت عند الطواف مبلغا من المال يقدر بـ 7400 ريال، كما بعثت رسالة أخرى من حاجة سودانية تشكر رجال الأمن المخلصين في المسجد النبوي في استرداد مفقوداتها. فقد كانت صحيفة أم القرى أشبه بمنصة تفاعلية تنشر فيها أصوات الحجاج ويصغى إليها كما تفعل المنصات الرقمية اليوم في العصر الحديث.
ومع دخول الملكة عصر التقنية والتحول الرقمي، أخذ صوت الحاج أبعاداً جديدة، حيث لم يعد محصورا في الورق بل أصبح قادراً على إيصال صوته عبر المنصات الرقمية الرسمية التي أطلقتها وزارة الحج والعمرة التي أتاحت للحجاج الوصول عبر قنوات الاستجابة السريعة لشكاوي الحجاج وملاحظاتهم عبر مركز العناية بضيوف الرحمن الذي يوفر الدعم والتوجيه بسرعة وكفاءة لكل حاج من خلال الاتصال المباشر أو التراسل الالكتروني، ويأتي ذلك ضمن رؤية شاملة تستند إلى طموحات رؤية المملكة 2030 التي تسعى إلى تحسين تجربة الحاج بكل يسر وسهولة، والواقع أن هذا التحول من» المكاتيب الورقية» في عهد الملك عبدالعزيز إلى المنصات الرقمية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - يحفظه الله- لم يكن مجرد انتقال تقني بل يعكس مفهوماً أعمق حول العلاقة بين الدولة والحاج القائمة على الشفافية والتفاعل اللحظي والمساءلة الفورية، مؤكدة أن صوت الحاج لا يزال مسموعاً، بل أكثر حضوراً وتأثيرا من أي وقت مضى..
** **
- د. نوير مبارك العميري