سلمان المسعودي
أتت بدايات عصر النهضة الأوربي، خلال القرن الرابع عشر الميلادي، في مدينة فلورنسا الإيطالية.
كانت عائلة مديتشي، العراب الحقيقي لهذه الحقبة، حيث تمتعت بالمال والنفوذ والسيطرة، لكن الأهم، هو رعايتها للعلوم والفنون والترجمة. لقد ترجمت العديد من الأعمال العلمية والفلسفية العربية العظيمة، والتي كان على رأسها، شروحات ونقد ابن رشد لأرسطو .
قام ابن رشد بتعليقات ونقد مفصل على أعمال أرسطو، خاصة في مجالات المنطق، الرياضيات، الفيزياء، علم النفس، واللاهوت وغيره. لقد كانت هذه الأعمال العلمية العربية الأساس والجسر، الذي ربط عصر النهضة، بأعمال كبار الفلاسفة الإغريق.
مما فتح المجال واسعاً، أمام فلاسفة عصر النهضة؛ لنقد العقل الديني الأوربي.
للأسف رافق عصر النهضة الأوربي، جمود فقهي إسلامي، حرّم بموجبه الاجتهاد، والفلسفة، والترجمة، وآلة الطباعة -هذا المخترع الثوري، الذي غير وجه أوروبا إلى الأبد- بالنهاية، حرّم أو منع كل جديد، لم يعهده العقل الإسلامي . أحدث هذا فرقاً هائلاً بين عالمين مختلفين، كانت خلاصته، تقدم الغرب وتخلف الشرق .
في إحدى قراءاتي في علم الجريمة، استوقفتني نظرية اجتماعية بسيطة، لكنها عبقرية وجديرة بالاهتمام.
مبدأ النظرية قائم على علم النفس البشري، الذي يؤكد أن الفرد لديه القابلية والقدرة على احترام النظام، والانضباط والعمل به، متى ما توفرت له البيئة المحفزة لذلك، إلا أنه سرعان ماينفك من هذا الالتزام، متى ما رأى الانفلات والفوضى من حوله! دعيت هذه النظرية «بنظرية النوافذ المحطمة» سأعرض بعضاً مما كتب عنها: «النوافذ المكسورة في الشوارع، تشجع المارة على كسر المزيد منها، من باب العبث، ثم يتجرأ الفاعل فيكسر نوافذ السيارات، ثم يتحول العبث إلى جرأة، فيتم اقتحام البيوت وسرقتها، أو إتلافها، كذلك الحال بالنسبة لوجود بعض المخلفات البسيطة، يشجّع على رمي المزيد من المخلفات، حتى ينعدم الذوق العام.
هذه النظرية، قلبت الموازين في العقود الماضية في الغرب، وغيرت في قوانين الإدارة عموماً، وفي الإدارة المدنية خصوصاً ، فعلى مستوى المدن الأمريكية مثلاً، فُرضت الضرائب على كل من يرمي المخلفات في الشوارع مهما صغر حجمها، ونُظفت الجدران يومياً من كل مايكتب عليها، وغُسلت وسائل المواصلات يومياً ونظفت، فأحسّ الناس أن من واجبهم المساهمة في الحفاظ على هذا الإنجاز الحضاري ، وعلى مستوى المرور فُرضت الضرائب على كل مخالفة مهما صغرت فقلّت المخالفات الكبيرة وقلت نسبة الحوادث ، وعلى المستوى الأمني تحوّلت نيويورك تلك المدينة المعروفة بالإجرام والسطو والفوضى في حقبة الثمانينيات إلى مدينة أكثر أمناً ونظافة وترتيباً .. ثم تبنّت الإدارات الحكومية والمؤسسات الخاصة هذه النظرية، كأساس مهم في فن الإدارة، والتطوير ورفع الإنتاجية» انتهى.
أليست هذه النظرية مذهلة؟
ألم يقل النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -:
«كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه»، وفي تراثنا: «معظم النار من مستصغر الشرر»
لكن لماذا لم يطور العقل المسلم هذا الإرث الديني إلى نظرية علمية حديثة؟!
أليس من المفترض أن تكون هذه النظرية ماركة مسجلة باسمنا كعرب ومسلمين؟!
أم أنه الجمود الفكري، الذي ما زال يلازمنا حتى الآن؟