د. فاطمة إبراهيم المنوفي
منذ اندلاع شرارة الحرب الأخيرة على غزة، وفي ظل تخاذل العالم بأسره عن وقف الظلم والعدوان على غزة، وفي ظل عجز المجتمع الدولي عن القيام بواجبه وترك الفلسطينيين وحدهم فريسة لعدوهم دون أدنى دعم إسلامي أو عربي أو دولي، تحدث الشرفاء والعديد من أهالي الشهداء عن خيار مر، وهو أن تتخلى حركة حماس عن سلطتها في القطاع، مؤقتاً، ولاسيما مع تخلي العالم بأسره عن وقف حمام الدم في غزة.
يرى المخلصون من الفلسطينيين وغيرهم من الشرفاء أنه لابد من حقن دماء الأبرياء بناء على القاعدة الفقهية «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، وهو ما يعني أن منع المفاسد أو إزالة الضرر يجب أن يكون أولوية على تحقيق المصالح أو المنافع.
بهذا المعنى، إذا تعارضت مصلحة ومفسدة، فتقديم دفع المفسدة هو الأصل، حتى لو كانت المصلحة كبيرة.
فحقن دماء الأطفال والأبرياء مقدم الآن على انتصار المقاومة ولو بشكل مؤقت، كما أن روح المقاومة باقية وموجودة قبل حماس وحتى مع تنحيها بشكل مؤقت، والانتصار قادم لكنه يحتاج إلى العدة والعتاد، وبدلا من إزهاق ما تبقى من الأرواح فلنركز على الأهم للوصول إلى الغاية.
روى الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من آذى مسلماً بغير حقٍّ فكأنما هدم بيت الله».
وفي حديث آخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لَقَتْلُ مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا» رواه النسائي. وعن ابن عباس قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال: مرحبًا بك من بيت، ما أعظمك، وأعظم حرمتك! وللمؤمن أعظم عند الله حرمة منك. أخرجه البيهقي في الشعب، وهو في السلسلة الصحيحة. وفي الباب مما رواه النسائي من حديث بريدة مرفوعًا: «قدر المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا»، وعن ابن ماجه من حديث البراء مرفوعًا: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق».
قال الله تعالي:
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (الأنفال: 60).
نحن لسنا من دعاة الاستسلام أو الهوان، ويعلم الله تعالى أن الهدف الرئيس هو حقن دماء الأبرياء في غزة. والأهم أن أهل غزة هم الأدرى بأحوالهم وأحوال قطاعهم، وهم المنوطون بأن يعبروا عن جراحهم وآمالهم، وهم أهل الدم وأصحاب الأرض. تحدثت مع العديد من أصحاب الدم ومع أهالي الشهداء، وتحدثت مع بعض زوجات الشهداء المقاومين، الذين هم من أنصار تحرير الأرض ودحر الاحتلال. ويرى الغالبية منهم أن حقن دماء الناس في غزة مقدم على بقاء حماس في السلطة.
فمن بين الدمار والخراب وأنقاض المنازل المتهدمة وصرخات القلوب المكلومة، تتعالى صيحات المكلومين بخروج حركة حماس من القطاع، طمعًا في إنقاذ ما تبقى من الأرواح، لترتيب الأوراق ولملمة الجراح ورحمة بأهل غزة وأطفالها الذين ضاقت بهم السبل وتعالت صرخاتهم، ويعيشون وسط الجحيم. لقد خلّف العدوان الإسرائيلي نحو 200 ألف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، وعشرات الآلاف من المفقودين، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت وما زالت تقتل يوميا العشرات من الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم بأسره.
كما تشير تقارير عدة إلى أن أكثر من مائة ألف شخص أُصيبوا منذ عملية السابع من أكتوبر، ويحتاجون إلى أطراف اصطناعية، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، وإن جيلاً من الأطفال مبتوري الأطراف موجود الآن في غزة ونسبة كبيرة من الشباب سوف يكبرون وهم يعانون من إعاقة ناجمة عن حرب الإبادة؛ كما أن مكان البتر لا يمكن إعداده جراحياً لتركيب الأطراف اصطناعية.
ماذا يعني بقاء حماس؟
يمثل بقاء حماس في غزة المزيد من القتل والدمار والخراب والموت وتدمير الأخضر واليابس والقضاء على ما بقي من الأحياء وهو الخيار الأكثر كلفة إنسانيًا على المدى القصير، لا سيما مع غياب أي دعم عربي أو إسلامي أو دولي وترك غزة فريسة ولقمة سائغة للأعداء وأعوانهم.
من منظور الحسابات الإستراتيجية للمصلحة الفلسطينية، فإن استمرار المقاومة هو جوهر القضية الفلسطينية، لكن الفر والكر أيضا من أدوات النصر والبقاء.