أحمد المغلوث
كانت رحلة العودة من نيويورك مروراً بكازابلانكا ووصولاً لمطار باريس، وكنت أقف خلف سيدتين أمام رجال وفتيات الجمارك خلال اجراءات التفتيش وانهمك رجل التفتيش في تفحص علبة متوسطة من البلاستيك وراح يسأل المرأة الكبيرة عن محتوى العلبة، فكان ردها عليه بأنه لحم «بيكون». فهز رأسه وهو يقرب العلبة من أنفه ليشمها فالتفت إلى الذي يقف خلفي وكان قد صعد إلى الطائرة من مطار كازابلانكا، وجلس بجانبي حتى باريس فسألته ماذا يعني «بيكون». فقال ألست عربياً: إنه لحم «القديد» المجفف ومنذ القدم كان أسلافنا ينشرونه ليجف بعدما يتبلونه بالملح، شكرته.
وبعدما انتهيت من التفتيش انتظرته لنأخذ سيارة أجرة معا إلى قلب العاصمة وما هي إلا دقائق وإذا بنا نركب معا سيارة أجرة وراح يتحدث عن «القديد» ويضاعف في وصفه والاهتمام به في أيام الأعياد خاصة في عيد الأضحى المبارك وحتى على مدار العام، وبالتالي تهتم الشعوب المغاربية به وغيرها من الشعوب ومنذ القدم حيث تتم عملية التجفيف والاحتفاظ به ليكون متوفرا في بيوتهم وضمن المواد الغذائية المهمة، وتعد منه العديد من الأطباق، هذا، وقبل أن أودعه أخبرته بأني قد حجزت في فندق ايفيل على بعد خطوات من البرج فهز رأسه عجباً، وقال تصدق يا أستاذ انني عملت في هذا الفندق خلال دراستي الجامعية ولكن في الفترة المسائية وصاحبه فرنسي مولود بالجزائر وورث الفندق من والده الذي كان مقيم فيها أيام الاستعمار، وأضاف تراه يجيد العربية وبلكنة جزائرية فهززت رأسي وقلت له أعرف فهو فندقي المفضل، وهذه ثالت مرة سوف أسكن فيه، فقال مبتسماً فندق تعرف صاحبه أفضل من لا تعرفه واومأ الجيلالي وهذا اسمه، برأسه وهو يودعني بعدما أوقف سيارة التاكسي بالقرب من مدخل المترو في شارع الشانزليزية وبعد أيام قضيتها في باريس مشاركاً في معرض جامعة السوربون عدت إلى الوطن..
ومازال لحم القديد يتردد في ذاكرتي، وسبحان الله ما هي إلا أسابيع وجاء عيد الأضحى، كان ذلك عام 1409هـ وعلى هامش العيد. سألت والدتي - رحمها الله- عن هذا القديد، فقالت ووجهها تلوب عليه علامات الدهشة والاستغراب من استفساري الغريب والعجيب.. وقالت: خير ما «الطاري» الذي جعلك تسأل هذا السؤال عن لحم القدي،د وفي العيد الحمد لله ديرتنا بخير لكن حسب ما تقول جدتك رحمة الله عليها فهي عاشت زمن الاهتمام بلحم القديد عندما كانت الظروف صعبة، ويصادف في عيد الأضحي أن العديد من الأسر لديهم أضحيات، وبالتالي تتوفر لديهم كميات من اللحوم إضافة إلى ما يصلهم من لحوم أضحيات الأهل والأقارب، وحتى الجيران، ولذلك تتم عملية تجهيز اللحوم المناسبة لتحويلها إلى «قديد».
وأضافت الوالدة: كان الأكثر استخداماً خلال سفر الحجاج فيتم تجهيز كميات كثيرة ومبكرا قبل السفر إلى الحج والعمرة.. هذا والقديد على مر التاريخ كان يشكل غذاء هاما في الفتوحات الإسلامية كون اللحوم ومنذ القدم تشكل غذاءا مثاليا لجسم الإنسان خاصة لمن يبذل جهداً كبيراً في أي مجال خاصة اللحوم الحمراء كونها تعزز المناعة لما تشتمل عليه من عناصر وفيتامينات مختلفة لا غنى عنها للإنسان حسب ما تشير إليه المراجع التاريخية والطبية والعلمية، وماذا بعد، روي عن ابن ماجه عن قيس أبي حازم أن رجلا أتى رسول الله صلى عليه وسلم فقام بين يديه فأخذته رعدة فقال له الرسول «صلى الله عليه وسلم»: هون عليك، فإني لست بملكٍ، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد.